كتب: رياض الفرطوسي
تلخص الامثال والحكم مستوى الوعي في مرحلة ما ‘ وطبيعة الاعراف السائدة ‘ سواء كانت على مستوى فردي او جماعي ‘ ومن تلك الامثال ( في الصيف ضيعت اللبن ) لكنني استبدلت اللبن بالحچی لضرورات المقال . لنقيم سياقات ما وصلنا اليه في حواراتنا ومقابلاتنا وتغريداتنا من مستوى في التجريح والشتائم والتسقيط وهتك الاعراض ومن حالات الابتزاز والنصب والاحتيال . حتى اصبحنا نعيش في زمن يضج بالتفاهة والضحك على عقول الناس ولم يعد هناك وجود للقيم الاخلاقية الا ما رحم ربي . يبدو ان الاشياء تغيرت من حولنا وكذلك لم يعد هو الانسان في ذلك الزمن ايام الجواهري وبلند الحيدري والسياب والبياتي ومظفر النواب ومصطفى جمال الدين .
كانت النصوص تداعب المشاعر والاحاسيس وتحرك الوجدان لذلك لازالت تعيش في وجداننا وذواتنا وسوف تستمر الى حقب زمنية قادمة . الا ان التكنلوجيا والحداثة والانترنت وسرعة النشر قد حجب كل ما هو جميل من كتب ومسارح وسينما ليكون البديل عن ذلك الابتذال حيث تلاشت المسافة بين الحقيقي والمزيف كما يعبر عن ذلك الفيلسوف الالماني مارتن هايدغر . كانت حقا اعمال تستحق الاحتفاء . في هذا الزمن لم يعد الكلام يداعب المشاعر وانما يداعب ( الطشة ) والاستعراض والظهور . حال الثقافة لا يختلف كثيرا عن حال السياسية ‘ سجالات وتزوير حقائق وانتحال وسطو وابتزاز . صيف المبدعين والسياسيين لم يستند الى النقد البناء في الراي وفي وجهات النظر بل تحول الى مباراة لمعارك شخصية وجدل وتصفية حسابات وطعن وتجريح واساءة . لم يعد النقد جزءاً اصيلا من المشهد الثقافي والادبي والسياسي وركن من اركان المراجعة والكشف والتصحيح ومبعث هذا الانحدار هو غياب سلم القيم والاخلاق والمعايير والتضامن الوطني وتماسك النسيج الاجتماعي .
ما نشاهده اليوم في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي هي حالة من الشللية والعلاقات الشخصية وتبادل المدائح والاطراءات الزائفة على حساب اخلاقيات الحكم والوضوح والاعلام . يقول ابن كثير ( افة الرأي الهوى ) فكيف اذا صدر هذا الرأي من نصاب او لص ‘ يقينا لن تتوقع ان يكون هناك نتائج لحوارك معه لانه وحسب ما يقول نيتشه لا يناقش الهراء بالمنطق . لقد مررنا بمراحل من التجهيل والسطحية كانت كافية لافراز هذا الكم الكبير من الشطط والذم والضحالة والكثير من العبارات المخجلة . بعض مواقع التواصل والفضائيات وفرت فرصة للكثير من الحمقى في ان يتحدثوا كما لو انهم عباقرة وحملة جوائز نوبل . حقيقة الامر انهم يعانون من السطحية وخداع الذات ‘ ليست لديهم تجارب واعية او عميقة ولا يستندون الى ثقافة رصينة ما عدا الالقاب التي حصلوا عليها من دكاكين الثقافة والسياسة . يقول برتراند راسل ( الحمقى واثقون من انفسهم والحكماء متشككون ) .
بعض هذا الضجيج الذي ينشره هؤلاء هو من اجل ثقافة ( خالف تعرف ) بسبب هامش الحرية المراقة . ففي زمن النظام المباد كانت السلطة تمنع الكلام وضريبة الكلام كانت كبيرة وهي قطع اللسان والرقبة . بعد 2003 تم اطلاق حرية الكلام حتى تحول الكلام الى بالونات يطلقها الجميع سرعان ما ترتفع في السماء ثم تختفي . انتقلنا من الكبت الى الفوضى ومن الازدراء الى الاجترار فضاع الكلام في هذا الصيف القائض . وربما ضاعت اشياء اخرى كثيرة كالصدق والمروءة والعفوية والخير والمبادرة والوضوح والاخلاص والوفاء . نبوءة قديمة كان يغرد بها داخل حسن ( ادور علی الصدك يا ناس ضاع وبعد وين الگاه ) . اعمارنا واحلامنا ضاعت وسط الصراعات والنزاعات واجبرتنا ظروف الحياة على تقبل هذا الكم المبتذل من المنحرفين وبروز السيء والمشوه .