كتب رياض الفرطوسي
في خضم الأزمات المتكررة التي تسيطر على المشهد السياسي والاجتماعي، تبرز إشكالية العلاقة بين “شرعية القوة” و”قوة الشرعية”. الأولى تستند إلى السيطرة والهيمنة بالقوة المادية أو النفوذ، بينما الثانية تنبع من الاعتراف الشعبي والقيم الأخلاقية والمؤسساتية التي تؤطر السلطة وتجعلها مستدامة ومقبولة. في هذا السياق، يشهد العراق تحولات عميقة، رغم الصخب والفوضى التي تغلفه، تعكس صراعاً بين هذين المفهومين. لطالما كان التغيير في العراق قائماً على “شرعية القوة”، سواء عبر انقلابات عسكرية أو ثورات مسلحة، حيث تُفرض السلطة بالقوة دون مراعاة للبنية الاجتماعية التي تنتجها. هذه الممارسات، التي عمّقت الاستبداد والانقسامات، جعلت النقد محصوراً في السلطة السياسية دون الالتفات إلى السلطة الاجتماعية، التي تعد المنتج الحقيقي لكل نظام سياسي . لكن مع الاحتلال الأمريكي، بدأ تحول نوعي، وإن كان بطيئاً، نحو نقد جذور الأزمة الاجتماعية التي تغذي الأنظمة الاستبدادية. هذا التغيير يمثل بداية الخروج من ثنائية “مدح المعارضة ونقد السلطة”، ليصبح النقد أكثر شمولية وعمقاً، رغم ما يواجهه من صعوبات في ظل بيئة مليئة بالخوف والعنف . يتضح التحول أيضاً في الفجوة المتزايدة بين النخب السياسية والثقافية والجماهير. فعجز النخب عن تقديم حلول حقيقية أو فهم تعقيدات الواقع أدى إلى انهيار مكانتها. في المقابل، ظهرت شرائح من المجتمع، خاصة النساء، تدعو إلى ثقافة جديدة تقوم على نقد السلطة الاجتماعية وأوهامها، متجاوزة الخطابات التقليدية البالية . ورغم أن هذه التحولات قد تبدو صغيرة، إلا أنها تكتسب شرعيتها من أصالتها وقدرتها على تحدي منظومة القيم المهترئة. التاريخ يثبت أن التغيير الحقيقي دائماً ما يبدأ بفرد أو قلة تتبنى أفكاراً ثورية قادرة على إحداث التحولات الكبرى . النظام السياسي القائم في العراق يفتقد إلى قوة الشرعية. فهو ليس نظاماً متماسكاً يحمي السيادة والأمن والاستقلال، بل هو سلطة أحزاب متصارعة بعضها مرتهن بالخارج . ومع تضعضع صورة النظام ، يتضح شيئاً فشيئاً شكل النظام المطلوب، الذي لا يمكن تحقيقه إلا بإعادة صياغة السلطة جذرياً. هذا العجز السياسي يقابله انفتاح شعبي متزايد على العالم بفضل ثورة الاتصالات، ما أدى إلى تحرير الوعي من احتكار النخب المحلية، التي أصبحت عاجزة عن فهم الواقع وتشابكاته. الجمهور اليوم يدرك بوضوح أن السلطة القائمة تستمد قوتها من الهيمنة وليس من الشرعية الحقيقية .اليأس الذي يسيطر على بعض الفئات اليوم هو رد فعل طبيعي على واقع مضطرب وقاسٍ، لكنه قد يكون أيضاً محطة انتقالية نحو المبادرة. التجارب العالمية أثبتت أن التحولات العميقة تحتاج إلى وقت، وأن حتى أكثر الأنظمة قوة وهيمنة لا تستطيع إيقاف تيار التغيير إذا كان شرعياً وأصيلاً. في مواجهة الأنظمة التي تعتمد على شرعية القوة، يبرز التحدي في تعزيز قوة الشرعية من خلال بناء منظومة سياسية واجتماعية قائمة على القيم والمعرفة واحترام إرادة الشعوب. التحولات الجارية في العراق، رغم بطئها، تمثل إرهاصات لمرحلة جديدة، لن تكون فيها القوة المادية وحدها كافية لاستدامة السلطة . إعادة صياغة العلاقة بين شرعية القوة وقوة الشرعية هي المفتاح لبناء مستقبل أكثر استقراراً وعدالة. هذا التحول يتطلب تعزيز الوعي الشعبي، تمكين النخب المثقفة الصادقة، وتحطيم منظومة الفساد والاستبداد التي تستنزف قدرات الشعوب وتقوض تطلعاتها .