كتب رياض الفرطوسي
عندما تصغي إلى قصيدة عن الوطن، تشعر وكأنك تعيش حلماً، تنتمي إليه بوجدانك لا بقدميك، كأنه عالم متخيل أكثر مما هو واقع. العراق، هذا الحلم الذي كان من المفترض أن يكون وطناً حقيقياً للتعايش، قاوم طويلًا محاولات التفرقة والتشويه، لكنه اليوم بات ساحة للصراع، يُنتزع من قلوبنا كما تُنتزع الذكريات الجميلة، على يد أصحاب المصالح الضيقة . هل ننتظر منقذاً يعيد لهذا الوطن مجده؟ الإجابة قاطعة: لا تنتظر. فكرة المنقذ ليست إلا سراباً يعمق الخيبة. حتى لو جاءنا منقذ يحمل رؤية وإصلاحاً، لن نتركه يعمل؛ سنطارده بالتهم، كما فعلنا مع الكثير من القادة. نحن مجتمع يُجهض التغيير، يخشى الجديد، ويقتل أي حلم قبل أن يولد . ماذا جنينا من الانتظار بعد سنوات الجمر ؟ بعد عقود من التضحيات، خرجنا بحصاد مرير : بدلًا من ثورة فكرية تنهض بالمجتمع، اجتاحنا الجهل والفساد .بدلًا من مراكز بحثية تُنتج المعرفة، امتلأت الساحة بمراكز للشعوذة والخرافة . بدلًا من مثقف نقدي مستقل، ظهر المتملق والانتهازي . بدلًا من مؤرخ يرصد الواقع بصدق، طغى فلاسفة التحليل السطحي ممن يشغلون أنفسهم بتوافه الأمور . لقد حلمنا بجيل مثقف ومتمرد يغير الواقع، فإذا بنا نجد جيلاً يفتقد الرؤية، يتسيده النفاق والمصلحة الشخصية. حلمنا بثورة فكرية تعيد صياغة الوعي، فعدنا إلى عصور التراجع والتعلق بالماضي. المشكلة ليست في الأشخاص أو الأنظمة وحدها، بل في بنية ثقافية تقبل الاستبداد وتناهض التغيير. كما قال المفكر هادي العلوي : صدام ليس ظاهرة استثنائية بل هو امتداد لسلالة من الطغاة في تاريخنا الطويل . هذه الكلمات تعكس عمق الأزمة التي تعاني منها مجتمعاتنا، حيث يغيب الوعي وتتكرر الأنماط ذاتها من القبول بالخضوع والفساد . العراق اليوم غارق في ضجيج لا يهدأ. الجميع يتحدث، من السياسة إلى البصل، بينما تغيب الفعلية والإنتاج الحقيقي. نحن مجتمع يعاني انفصاماً بين ما نؤمن به وما نفعله؛ نعرف اللصوص وننتخبهم، نرى الانتهازيين ونصفق لهم، ونصرخ بالحرية بينما ندعو للظالمين. هذا التناقض الجوهري بين الوعي والسلوك أنتج متاهة معقدة، تُبقي الشعب في حالة استنزاف دائم : الخوف الدائم يُغذي الوهم . الانشغال بالعداوات الوهمية بدلًا من مواجهة الواقع . الهروب إلى الماضي عوضاً عن التخطيط للمستقبل . نحن لا ننتظر فحسب، بل نحطم كل أمل ينبثق في الأفق. نهمش النخب ، نحاصر المنقذ، ونسقط المتنور ، لأننا نخشى التغيير الذي يهدد عاداتنا وراحتنا الزائفة . الخلاص الحقيقي يبدأ من الداخل. علينا أن نعيد صياغة وعينا، أن نتصالح مع ذواتنا، ونتحرر من عقلية الانتظار. الطريق طويل، لكنه ليس مستحيلًا. وحدها الإرادة الصادقة، المتحررة من قيود الخوف، قادرة على إحياء العراق روحاً وجسداً، وتحويل الحلم الضائع إلى واقع حي