كتب رياض الفرطوسي
لطالما كانت القدرة على استشراف المستقبل وتحديد مساراته مطلباً أساسياً لتحقيق الاستقرار والتقدم. ومع ذلك، واجهت النخب السياسية والثقافية في العراق، سواء أيام المعارضة أو بعد توليها السلطة، عجزاً ملحوظاً في قراءة المستقبل وتقديم رؤية استراتيجية لإدارة البلاد. هذا المقال يسعى لتحليل أسباب هذا الفشل وتبعاته على المجتمع والدولة . قبل سقوط نظام صدام حسين، عجزت المعارضة العراقية عن وضع تصورات واضحة لما سيأتي بعد الإطاحة به. افتقرت القوى المعارضة إلى خطط استراتيجية يمكن أن تُرسي أسس الحكم الجديد. لم تكن هناك رؤية لكيفية إعادة بناء الدولة، معالجة الصراعات الطائفية والعرقية، أو إدارة الاقتصاد في حقبة ما بعد الديكتاتورية . عقب تسلم السلطة، واصلت النخب الحاكمة هذا النهج غير المدروس. بدت السياسة العراقية خالية من الخطط طويلة الأمد، حيث انشغلت النخب بتلبية الحاجات اليومية الملحّة بدلًا من وضع استراتيجيات مستقبلية. في حين تضع الدول المتقدمة خططاً تمتد لعقود، لم تقدم الحكومات المتعاقبة أي برنامج عملي يتجاوز الأزمات المؤقتة، مما أدى إلى تفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية . في الوقت الذي أصبح فيه “علم دراسات المستقبل ميداناً مهماً في الجامعات ومراكز الأبحاث حول العالم، لم يُدرج في مؤسساتنا أو خططنا. هذا العلم يركز على دراسة الاحتمالات والسيناريوهات الممكنة بناءً على المعطيات الحالية والمستقبلية. بينما تستفيد الدول المتقدمة من هذا العلم في وضع استراتيجياتها، افتقر العراق إلى أي مؤسسة أو جهة تتبنى هذا النهج، مما أبقى المجتمع عالقاً في دوامة الأزمات المتكررة . حتى النخب الثقافية العراقية في الداخل والخارج لم تستطع تقديم رؤية واضحة للمستقبل. انصبّت جهود المثقفين على القضايا اليومية دون استشراف ما يمكن أن يحدث على المدى البعيد. هذا القصور ساهم في تعزيز حالة الضبابية الفكرية والعجز عن التغيير. غالباً ما يتم حصر مفهوم السلطة في الحكومة، بينما هي شبكة متشابكة تضم السلطة الاجتماعية، الثقافية، والاقتصادية. فهم السلطة بهذا المعنى الشامل يتيح التعامل مع المجتمع كوحدة متكاملة تسهم في صنع القرار وتوجيهه. عندما تتغير السلطة الاجتماعية، يتغير النظام السياسي تلقائياً، لأن الأول يشكل الأساس الذي ينبثق منه الأخير. النماذج العالمية الناجحة، مثل ماليزيا وسنغافورة، تقدم دروساً مهمة. هذه الدول استثمرت في الإنسان، وركزت على التعليم، الابتكار، والهوية الوطنية كعناصر أساسية لتحقيق النهضة. في المقابل، لا يزال العراق يعاني من غياب هذه الرؤية، حيث يتم التعامل مع المواطن كمتلقٍّ للحلول المؤقتة بدلًا من شريك في بناء المستقبل .المشكلة ليست في افتقارنا إلى الموارد أو الإمكانيات، بل في غياب الإرادة والرؤية الواضحة. التخطيط الاستراتيجي ليس ترفاً، بل ضرورة لضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة. إذا لم تُعالج هذه القصورات، سيظل العراق عرضة للأزمات والتراجع، مما يؤدي إلى مزيد من التبعية والهوان .استشراف المستقبل ليس مهمة مستحيلة، لكنه يتطلب قادة يمتلكون الشجاعة للتفكير خارج الصندوق، ومؤسسات تعترف بأهمية التخطيط العلمي، ونخباً ثقافية تتبنى دورها كقوة تغيير. العراق بحاجة إلى مشروع وطني شامل يضع الإنسان في قلب عملية البناء، لأن الاستثمار في المستقبل هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمات المتلاحقة وتحقيق الاستقرار والتنمية