د. مهدي عامري
” ان الآلات التي صُنعت لتخدم الإنسان أصبحت الآن تُحدد مصيره، وكأن البشر قرروا تسليم مقاليد حياتهم إلى خوارزميات باردة لا تعرف الرحمة ”
جيانغ جينغ – فيلسوف معاصر
مات الإنسان و لم يعد يتقن هذا الحي الميت سوى مشاهدة المسرحيات.
شعب يباد عن بكرة أبيه. أرض مغتصبة. أمة جريحة تتداعى عليها الأعداء كالذئاب الجائعة.
لا رحمة و لا شفقة.
حسبي الله و نعم الوكيل.
في الزقاق المظلم للوعي البشري، حيث يمتزج الغموض بالسخرية، وحيث ينقض العبث على الانسان الحر الذي فقد كل شيء الا الكرامة و الرغبة الحارقة في الانعتاق من الظلم، يبدو كأن العالم قد قرر أن يستبدل قسوته التقليدية ببرودة ميكانيكية أدهى وأمر.
الكيان غارق في صراع لا ينتهي و يداه ملطختان بالدماء و ربما هدفه إبادة مائة ألف أو يزيدون من هذا الشعب الطيب المبارك. من يدري؟ و لكن يد الله فوق أيديهم.
يمهل و لا يهمل..
ها هو ذا الكيان اللقيط يقرر أن يجعل الذكاء الاصطناعي عنوانا لحربه و ترجمانا لقسوته، فيخرج للعالم نظامًا يدعى “لافندر”، و هو وحش كاسر يلبس قناع العقلانية ويخفي خلفه خوارزميات تسير بخطى ثابتة نحو الإبادة، ضاربة بكل المعايير الأخلاقية عرض الحائط.
تخيل معي هذا المشهد: شاشة تتلألأ بالأرقام والخرائط، وقرارات الموت تتخذ في عشرين ثانية، أسرع من ومضة حياة، و أقرب إلى طلقات الرصاص.
داخل هذا النظام، حيث الأهداف لا تعدو كونها بيانات صماء، تصدر قرارات قتل بأعصاب باردة. و على الأرض، عائلات تتجمع حول طاولة عشاء متواضع، أطفال يلعبون بألعاب محلية الصنع، ورائحة الخبز الساخن تعبق في الأجواء، بينما الطائرات المسيّرة، المحملة بالذكاء الاصطناعي، تتربص فوقهم كطائر من طيور الجحيم. وبدلاً من أن تكون التكنولوجيا حلاً لمشكلات الإنسان، تحولت إلى الشيطان الذي يتنكر بعباءة التقدم و التفوق.
ان الأمر لا يقف عند الطائرات المسيّرة، بل يتعداه إلى قوائم الأهداف التي أعدها “لافندر”، أكثر من 37 ألف اسم، أرقام مطبوعة في صمت بارد على شاشات، كل اسم يحكي قصة، وكل قصة تنتهي بلحظة انفجار مفجعة مع نسبة خطأ تبلغ 10%.
ربما يبدو الرقم صغيرًا عند مناقشته في غرف الاجتماعات المكيفة، لكنه يعني أن 3700 شخص بريء قد يتحولون إلى أشلاء، لمجرد أن خوارزمية قررت أن وجودهم لم يعد ضروريًا.
في جيش الكيان، الضباط أنفسهم أصبحوا أشبه بعرائس متحركة، يوافقون على قرارات الآلة دون مراجعة، لقد تحولوا الى مجرد ختم مطاطي يصادق على الموت.
لكن من ذا الذي يعترض في عالم أصبحت فيه الآلة أكثر حكمة من الإنسان؟ القرارات الباردة التي اتخذت خلف الشاشات، حولت الضباط إلى عبيد للخوارزميات.
في أرض العزة، الأطفال ليسوا أكثر من “بيانات ثانوية”، تُراجع فقط للتأكد من أعمارهم قبل قصف منزل عائلاتهم.
هل الهدف شيخ أو امرأة أو طفل يافع؟ إذا، لن يتأخر الصاروخ عن الوصول اليه ومسحه من الوجود في أقل من عشرين ثانية. أما إن كان امرأة أو طفلًا دون السابعة عشرة، فعلى الطائرة أن تبحث عن وجبة أخرى. ان الذكاء الاصطناعي هنا ليس سوى الشريك في الجريمة. يُقال إنه يحلل البيانات البيومترية ويجمعها من كاميرات المراقبة والطائرات المسيّرة، لكن الحقيقة المرة أن هذه التكنولوجيا تُسخّر لتجريد سكان أرض العزة من آخر ذرات خصوصيتهم، وكأن الحصار والقصف والموت لم يكفهم.
ان هذه الأدوات ليست لمراقبة الأمن بل لتجهيز المذبحة المقبلة، فكل وجه يتم تسجيله في قواعد بيانات ضخمة، و ما هي النتيجة؟ جحيم لا تنطفئ نيرانه. تقتيل و تجويع و حصار لا ينتهي.
في الظل، تدور الطائرات المسيّرة الصغيرة، وبدلاً من أن تكتفي بمراقبة الحركة، تقصف الأفراد دون أي تدخل بشري. ومن التقارير التي تسربت من الأروقة العسكرية، نجد أن الجيش الجبان لا يمانع أن يسقط ما بين 15 إلى 20 ضحية مدنية لتحقيق هدف عسكري واحد، ولو كان الهدف جنديًا مغمورًا.
إنها معادلة رياضية وحشية تُظهر تفوقًا في الكفاءة العسكرية، وتجاهلًا كاملًا للروح الإنسانية. وعندما تضرب الذخائر، فإن 45% منها ليست موجهة بدقة، بل هي يُعرف بالقنابل “الغبية”، تلك التي تضرب حيثما تشاء، فتُحول المنازل والمدارس والمستشفيات إلى أنقاض، وتُبقي على مشهد الدمار الذي يجعل أرض العزة تبدو وكأنها مشهد من جحيم دانتي.
ان هذا الأسلوب الفظ و اللامسبوق في وحشيته الذي يعتمده الاحتلال هو تحدٍ مباشر لكل قوانين الحرب الدولية، وكأن القانون نفسه لم يعد سوى وثيقة تاريخية بالية لا تصلح إلا لتزيين المكاتب. لكن نظام “لافندر”، مع كل عيوبه، ليس سوى واجهة لأزمة أعمق: إنسانية مفقودة في عصر تُسيطر فيه الآلات على قرارات الحياة والموت.
ان الإنسان، الذي كان في يوم من الأيام صاحب القرار، بات مجرد متفرج على شاشات تُعرض عليها جثث ضحايا برمجياته. فلم تعد الحرب معركة إرادات، بل صارت معركة خوارزميات. وماذا عن المستقبل؟ يبدو أن الحرب بالذكاء الاصطناعي ليست سوى البداية. فالكيان الملعون، الذي لا يكتفي باستخدام هذه الأنظمة، يخطط لتصديرها إلى دول أخرى، وربما إلى أنظمة استبدادية تبحث عن أدوات قمع جماعي. ولنتخيل هذا السيناريو: ديكتاتور يملك خوارزميات تحدد “أعداء الدولة”، فهل سيكون العالم مكانًا أفضل؟
محال..
ان العالم، بكل توازناته الهشة، يبدو أنه يهرول نحو جحيم جديد، حيث تُدار النزاعات كألعاب فيديو دامية، وحيث الإنسانية ليست سوى فكرة رومانسية لم يعد لها مكان. وأمام هذا المشهد القبيح، نجد أن الأمم المتحدة، التي كانت يومًا أملًا للبشرية، تبدو عاجزة عن فرض أي قوانين تكبح جماح هذا الجنون التكنولوجي.
ان الحظر الدولي للأنظمة القتالية المستقلة بات ضرورة، ليس فقط لمنع كارثة مقبلة، بل لضمان أن يبقى الإنسان مسؤولًا عن قرارات الحرب، مهما كانت قسوتها. لكن هل نحن كجنس بشري نملك الحكمة لاتخاذ هذا القرار؟ أم أن غرورنا التكنولوجي سيقودنا نحو هاوية لا عودة منها؟
ختاما، دعونا نستنتج أن الكيان الغاصب ليس وحده في هذا السباق. فالدول الكبرى تتسابق لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي فتاكة، وكلها تدرك أن المستقبل ليس في عدد الجنود بل في عدد الخوارزميات.
ان هذا المستقبل يبدو قاتمًا، إذ أنه يهدد بتحويل الحرب إلى لعبة إحصائية حيث تُحسب الخسائر البشرية كأرقام في تقارير، دون أن يرف لأي قائد جفن.
ان القلب ليحزن و ان العين لتدمع. حسبي الله و نعم الوكيل.. أليس من السخرية أن يكون ذكاء الآلة هو ما يفضح غباء الإنسان؟ فنحن نعيش في عصر تُعيد فيه الحروب تعريف نفسها، لكن على حساب ما تبقى من إنسانيتنا.
إن العالم الذي يُترك فيه للآلات أن تقرر مصير البشر، هو عالم بلا قلب و بلا روح و بلا مستقبل