مع حلول شهر مايو من كل عام ينشغل طلاب الجامعات و المعاهد العليا بكتابة الجزء الاعظم من بحوث تخرجهم مُستعينين بكل الوسائل المتاحة من مراجع اونلاين، قراءات سريعة، كتب علمية متخصصة، مقابلات ميدانية، استبيانات، دراسات الحالة.. و ما الى ذلك من الادوات و المصادر الممكنة و المتاحة لبناء “معارف جديدة”..
اتحفظ هنا على توصيف المعارف الجديدة المذكور اعلاه و اضعه بين ظفرين، لان اغلب ما يكتب من بحوث التخرج في الجامعات المغربية يكاد يغيب فيه المنهج العلمي الصارم و المجهود الاكاديمي الحقيقي، فأنت تجد معظم الطلاب ان لم يكن كلهم يسارعون الى كتابة بحوث التخرج في زمن قياسي لا يتجاوز بضعة اسابيع، معتمدين في ذلك على حيل القص و اللصق و و حشو البحث بمعلومات مكررة او قديمة و غير خاضعة، الا في حالات قليلة، الى تمحيص علمي دقيق و غربلة حقيقية لفصل الغث عن السمين و الخروج في نهاية المطاف بمذكرة بحث حقيقية، سهر من اجلها الطالب الفلاني الليالي و الليالي..
ان هذه السرعة و السطحية بل و الاستهتار في كتابة مذكرات التخرج في الجامعات المغربية ينتج لنا في المحصلة كما وفيرا من البحوث لا تصلح لاي شيء، و لا تفيد في اي شيء اللهم انجاز واجب مدرسي و الحصول على الدبلوم..
ن الجزء الاكبر من البحوث الجامعية، في مختلف الاسلاك : اجازة، ماجستير، دكتوراه… في الجامعات العربية ( و ليس فقط المغربية)، أقول : أغلب هذه البحوث لا قيمة لها، مجرد ركام من الاوراق الفارغة من الروح و المعنى، دعونا نختصر الحديث و نعترف ان جلها اوراق ملقاة في القمامة؛ بعبارة اخرى : أوراق كالجبال متكدسة في الخزانات و على الرفوف و عاكسة لحالة البؤس المعرفي لطلابنا الأعزاء..
هنا على من تقع المسؤولية الاساسية : الطالب، الاستاذ، الادارة، الجامعة، النظام التعليمي، ثقافة التساهل و الميوعة التي تنخر منذ عقود طويلة المنظومة التعليمية المغربية؟؟
لنا باذن الله عودة الى بعض عناصر الاجابة عن هذا السؤال الحارق و المؤرق في مناسبة قريبة.
جدير بالذكر انه في العامين الاخيرين رافق كتابة بحوث التخرج في المغرب، بل تقريبا في جميع دول العالم، جدل اخلاقي كبير حول حدود استخدام الذكاء الاصطناعي ( اساسا ربوتات الذكاء الاصطناعي التوليدي : تشات جيبتي، كلودي، جيميني…) في تحرير البحوث..
– هل يعتبر الامر غشا صرفا ؟
– هل من المقبول استخدام ربوتات المحادثة في تحرير بعض اجزاء بحث التخرج ؟
– ما هي الممارسات الفضلى الواجب تبنيها لاستخدام منضبط و مناسب للربوتات في عملية كتابة بحوث التخرج، في شتى مراحلها : بدءا بتسطير خطة الكتابة، مرورا بتحرير المقدمة و الاشكالية و الفرضيات و المنهجية، و صولا الى الشق الميداني للبحث بشتى تفاصيله، انتهاء بالخاتمة و التوصيات و المراجع و الملاحق.. ؟
إنّ المسؤولية مشتركة. انها تقع على عاتق الجميع لضمان الاستخدام الأمثل للذكاء الاصطناعي في هذا المجال. الى جانب ذلك، يمكن القول انه يقع على عاتق الجامعات:
. تطوير برامج كشف السرقة الأدبية لضمان أصالة و تميز البحوث المُقدمة،
. تنظيم اوراش عمل ودورات تدريبية لتثقيف الطلبة حول الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي في البحوث،
. تحديث معايير تقييم بحوث التخرج لتشمل تقييم مهارات الطالب في توظيف الذكاء الاصطناعي بشكلٍ إبداعي.
و يظل دور الأساتذة متمثلا في :
. متابعة سير عمل الطالب بشكلٍ دقيق لضمان عدم اعتماده الكلي على الذكاء الاصطناعي،
. تدريب الطلبة على تقنيات البحث العلمي و التحليل و التفكير النقدي بدلًا من الاعتمادية المفرطة و السلبية على مخرجات الذكاء الاصطناعي،
. توجيه الطلبة نحو استخدام الذكاء الاصطناعي كأداةٍ مُساعدةٍ تكميلية لا كغايةٍ في حدّ ذاتها.
و اسمحوا لي ان أختم كلامي بفكرة هامة أعتبرها في الوقت نفسه خلاصة المقال و أطروحته الأساسية :
إنّ ثورة التكنولوجيا و بالخصوص تقنية الذكاء الاصطناعي تُقدم لنا إمكانياتٍ هائلةٍ لتعزيز مسار البحث العلمي. لكن، علينا أن نُدرك أنّ هذه الإمكانيات لا يمكن ان تُغني عن الجهد البشري الخالص والإبداع المستند على تكبد المشاق النفسية و البدنية و الذهنية المطلوبة لأجل القراءة المتمهلة و الاكتساب و التحصيل الحقيقي.
لوبوكلاج: د. مهدي عامري *