قلم د. مصطفى يوسف اللداوي
كأنها استنهضت ماضيها، ونفضت الغبار عن حضارتها القديمة، واستعادت أمجاد قرطبة وإشبيلية وطليطلة وغيرها من حواضر ومدن دولة الأندلس القديمة، فاستلت سيفها وأخرجته من غمده، في موقفٍ عز على أصحاب البتار وأهل المسلول والمهند أن يقوموا بمثله، وطفقت تلوح به بثقةٍ وقوة، وتهزه في وجه الظالمين، وتهدد به المعتدين، وتستنكر جرائمهم وتسلط الضوء على انتهاكاتهم، وهي التي عانت من وجودهم قديماً في بلادها، وشكت من تدخلهم في سياساتها، وتضررت مصالحها نتيجةً لنفوذهم ومحاولات سيطرتهم على البلاد والهيمنة على قادتها، والتحكم في اقتصادها وتسيير شؤونها.
انتفض الإسبان في وجههم وكأنهم لم ينسوا دورهم، ولم يغفروا لهم جرائمهم، فوجدوا الفرصة سانحةً لبيان ظلمهم، وتسليط الضوء على عدوانهم، والتعبير عن مواقفهم الإنسانية ومبادئهم الدولية المسؤولة، فحكمت حكومتهم ضميرها، وقالت كلمتها مدويةً صريحةً، وأعلنت بالتنسيق مع دولٍ أوروبيةٍ أخرى عن مواقفها الجريئة، وكشفت عن سياساتها دون خوفٍ، فأيدت الحق الفلسطيني وانتصرت له، ووقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني وناصرته، ولم تتردد في الإعلان رسمياً عن اعترافها بالدولة الفلسطينية، وإصرارها على استعادة الفلسطينيين حقوقهم، وعودتهم إلى ديارهم.
جاء اعتراف إسبانيا وغيرها بالدولة الفلسطينية في وقتٍ حساسٍ للغاية، لا يخلو من مضامين سياسية، ورسائل دولية، وجهتها إلى أكثر من جهةٍ وعنوانٍ، فلو أنها اعترفت في غير هذا الوقت ربما ما كان سيكون لاعترافهم هذا الصدى أو الوقع الكبير، فقد اهتاج الكيان وغضب، وزمجر قادته وهددوا، واستعاد وزير خارجيته سفيرهم في مدريد والعواصم الأخرى، في محاولةٍ لبيان غضبهم، والتعبير عن استيائهم، والضغط على حكوماتهم للتراجع عن اعترافهم، فقد أدركوا مضامين القرار وأبعاد الاعتراف في هذا الوقت بالذات، الذي يشهد فيه العالم بالصوت والصورة الجرائم الإسرائيلية البشعة التي يقترفها جيشهم ضد الشعب الفلسطيني.
لكن رسائل الاعتراف بالحقوق الفلسطينية لم تقتصر على العنوان الإسرائيلي فقط، بل طالت الولايات المتحدة الأمريكية الراعية للكيان، والمؤيدة له، والشريكة معه في حربه وعدوانه على الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تحاول أن تخلق فيه حلفاً مؤيداً للكيان الصهيوني، وتشرع عدوانه الغاشم بحجة الدفاع عن النفس وحماية المستوطنين وتأمين المستوطنات، فكانت رسائل الاعتراف لتؤكد لها ولحلفها رفض الإنسانية كلها والضمير العالمي الحر للعنصرية الإسرائيلية، واعتراضها على سياستها المنحازة للكيان، والمؤيدة له في عدوانه على الشعب الفلسطيني، ورفضها كل وسائل الدعم والإسناد التي تقدمها له مالاً وسلاحاً وسياسةً.
لكن إسبانيا لم تقف عند حدود الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ولم يقتصر موقفها على البيان الذي ألقاه رئيس حكومتها بالتزامن، فقد أعلن وزير خارجيتها إصرار بلاده على المضي قدماً في تأييد الفلسطينيين ونصرتهم، والتضامن معهم، والوقوف إلى جانبهم، وأكد أنها لن تصغي السمع لأي محاولاتٍ لثنيها عن قرارها، ولن تسمح لأي جهةٍ بإرهابها وممارسة الضغوط عليها، ودعا دول أوروبا الأخرى ودول العالم إلى التعجيل بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، إذ أن الاعتراف يعجل بوضع نهاية للحرب ولمأساة الشعب الفلسطيني، وينهي الجريمة الإسرائيلية النكراء، ويلزمها بالموقف الدولي الداعي إلى إعادة الحقوق والتسليم بالقوانين الدولية، ويشعر الكيان بالعزلة، ويضيق الخناق على الدول الداعمة له.
أما نائبة رئيس الحكومة الإسبانية فقد كانت أجرأ من نظرائها العرب، وأكثر وضوحاً وصراحةً من أنظمتهم، عندما أعلنت أن الفلسطينيين سيستعيدون أرضهم من النهر إلى البحر، وسيحررون بلادهم وسيعودون إليها، وأكدت أن حكومة بلادها ستواصل الضغط الدولي لوقف حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وكانت قد أيدت المظاهرات الشعبية التي تجوب شوارع المدن الإسبانية نصرةً لفلسطين وتضامناً مع أهلها، ورفضاً لحروب الإبادة الإسرائيلية واستنكاراً للدول المؤيدة لها، وعابت على بعض الدول الأوروبية التي منعت التظاهر وعاقبت المشاركين فيها.
رائعٌ هو الموقف الإسباني تجاه فلسطين وشعبها، موقفٌ نعتز به ونفتخر، ونبني عليه ونستثمر فيه، وينبغي تقديره والإشادة به، وشكر إسبانيا حكومةً وشعباً وتشجيع غيرها، وعدم الاستخفاف به وبمواقف الدول الثلاث والأوروبية الثماني الأخرى، التي سبقت بإعلانها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وحق شعبها بالمقاومة والنضال، لاستعادة حقوقهم وتحرير أرضهم.
كلنا أمل أن تلتقط أنظمتنا العربية هذه السانحة، وأن تبادر إلى اتخاذ مواقفها وتموضع سياستها، وصقل سيوفها الصدئة لتعود بتارةً مسلولةً، حادةً قاطعة، فيصلاً حساماً، ورفع أصواتها الخافتة لتكون فاعلةً ومؤثرة، وتنحاز بلا تردد أو خجل إلى جانب الحق الوطني والقومي والديني والقانوني والإنساني للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، فهي بهذه المواقف تسمو، وبها تبقى وتخلد، وبغيرها تسقط وترتكس، وتذل وتخزى.
بيروت في 24/5/2024