م يتبق في البلد مساحة عذراء للافتراس، كان لا بد من إضافة حقل جديد للاغتناء، حقل هلامي، لا يترك خلفه غبارا ولا رائحة، غير مكلف، ويبيض بعض الذهب، صحيح ليس بحجم ذهب الغاز والسمك والفضة، لكنه كاف لشراء الصمت والولاء؛ وهو حقل الدراسات والأبحاث. حقل كان إلى وقت قريب جدا فوق الشبهات، متسترا بوقار العلم ومهابة المعرفة، إلى أن فضحه أو قُصد فضحُه من خلال تقرير المجلس الأعلى للحسابات.
يكشف التقرير بالأرقام والحجج والتواريخ عن دعم مالي إضافي عمومي استفادت منه الأحزاب السياسية، كان الهدف النبيل المتوخى منه هو إعانتها على إنجاز دراسات وأبحاث تحلل الأوضاع الراهنة وتنتج حلولا وأفكار مبدعة لتشريعات وسياسات عمومية ذات جدوى؛ لكن مخرجات هذا الدعم كانت للأسف مخيبة للآمال، أغلبها دراسات فضفاضة وهشة علميا، وأخرى وهمية أو متستر على ضعفها، والباقي دراسات مشبوهة، فاسدة، ذهبت أموالها لمراكز باسم الأبناء والبنات والمقربين.
ازدهرت بشكل لافت في السنوات الأخيرة سوق مكاتب الخبرة والدراسات والأبحاث، فبين مكتب خبرة وآخر ينبت مكتب خبرة، وبعد نهاية تقديم الخبرة للجهة الزبون وأخذ المستحقات، قد تغلق مكاتب وتولد أخرى بعناوين وتسميات جذابة، ومع تناسل هذه المراكز والمكاتب، اكتظت السوق البحثية بالكثير من الدراسات والأبحاث المتكررة، المستنسخة، دراسات فوق الحاجة أحيانا، وحتى إن توفرت في بعضها شروط الدقة والمصداقية العلمية في تشخيص أزمات البلاد المتعددة الأوجه، فإنها تبقى حبرا على ورق، لا تتبعها تحقيقات ومرافعات للمساءلة، لا تنتج مبادرات استراتيجية شجاعة للتغيير من طرف الفاعلين السياسيين، ولا يخوض منتجوها أو ممولوها من المال العام معارك من أجل الإصلاح؛ أغلب الدراسات والأبحاث تتحول خلاصاتها إلى أوراق مالية في حسابات المراكز المحظوظة، وتنتهي أوراقا ميتة في رفوف الأرشيف.
الأكيد أن ضجة فضيحة ريع الدراسات ستتلاشى وتنمحي كما العادة ، دون أن تنجح في محاسبة المتورطين أو زعزعة نفوذهم، لكن يبدو أنها قد نجحت في إسقاط القناع عن عصفورين بحجر فاسد واحد، وفي تسديد ضربة قاتلة لكائنين كانا في زمن مغربي مضى يمثلان بؤرة إزعاج للحاكمين المستبدين والفاسدين، هما: المعارض السياسي والمثقف، فمن جهة شكلت هذه الفضيحة سقطة أخلاقية للفاعل الحزبي “المعارض”، المفترض أن يكون مناضلا شرسا ضد الريع والفساد؛ ومن جهة ثانية زادت في تعميق الخدوش التي مست رمزية الصورة الرّسالية للمثقف، المفروض فيه أن يكون صوت الناس وضميرهم اليقظ، وأن يكون متطوعا بعلمه وخبرته المعرفية لخدمة المجتمع.
لقد ولى زمن المناضل الذي ينذر حياته وماله من أجل مصلحة الوطن، وانتهت أسطورة ذلك الشخص النادر والعضوي الذي يقوم بالوظيفة النقدية للحاكمين، والذي يضع رصيده العلمي والمعرفي طوعيا وبلا مقابل من أجل خدمة الطبقة المسحوقة والمظلومين والقضايا الإنسانية النبيلة. والسؤال الحارق المثار اليوم في النقاشات الفكرية حول استقالة المثقف أو موته، وحول غياب حصن ثقافي ممانع وسلطة مضادة وشجاعة تعيد التوازن للمشهد السياسي؛ قد يكون أحد أجوبته المسكوت عنها موجود في هذا الفساد الصغير وهذا الإرشاء المُقنَّع للنخب مقابل الصمت وغض الطرف عن الفساد الكبير.