كتب رياض الفرطوسي
بقراءة متفحصة ونقدية لما يجري اليوم يكتشف المشاهد ان بعضا من وسائل الاعلام العراقية والفضائيات ‘ يظهر فيها نجوم الاعلام ( من يعتقدون انهم نجوم ) وهم حفنة من الاميين ثقافيا ‘ وفكريا . يتصرفون بقاموس سياسي مدرسي هزيل . حتى خرج علينا قبل ايام احد من هؤلاء وبأستعراض مسرحي بنزع سترته امام الكاميرات وهو يصرخ بأعلى صوته اذا هاجمنا نتنياهو ( انزع الستره والبس ملابس عسكرية ) وكأن الحرب الدائرة هي بالسلاح الابيض او معركة في مقهى او شارع . وهناك سياسي كان يعمل قبل الاحتلال كبائع هواتف في دكان وسط لندن ‘ تم طرده من قبل صاحب المحل لعدم الامانة ‘ تسنم مراكز مسؤولة ومهمة في الدولة ‘ خرج علينا يوما من الايام بتصريح ان الزعيم الفلاني اذا كنت مختلف معه وذهبت لزيارته سينزع ملابسه ويصافحك. مترجم سابق للقوات الامريكية يتحول الى مسؤول كبير في السلطة التشريعية يخرج اثناء الاحتجاجات على التلفاز ويصرح انه سينزع سترته وينزل بالقميص مع المتظاهرين . السؤال الفلسفي الذي ممكن ان يطرح نفسه اذا كان هؤلاء جميعا قد نزعوا اشياء كثيرة منها الضمير ‘ والوعي ‘ والنزاهة ‘ والعواطف ‘ والامانة ‘ والمشاعر الحقيقية ‘ والمواقف المشرفة ‘ فما قيمة نزع الملابس ‘ يدركون انهم عراة امام التاريخ والناس ‘ وحتى امام انفسهم . المبادىء التي باعوها هي دليل الستر وليس الملابس . تجد ان امثال هؤلاء لا يحملون رؤية عميقة للمستقبل ويفتقرون للثقافة السياسية الرصينة ولا تستغرب من ان يستنم التاجر حقل الاعلام وهو لم يكتب مقالا في حياته . لذلك لم يستطيع هؤلاء اقناعنا لا اعلاميا ولا سياسيا وكل ما استطاعوا فعله صناعة امبراطوريات اقتصادية لهم ولعوائلهم . ثمة اغتراب وانفصال بين السياسي ومحيطه وبين الاعلامي والناس . رغم كل الفذلكات التي يقومون بها فشلوا في صناعة خطاب واع لانهم عبارة عن كذبة في بلد يحترق بكل انواع الفساد والدم والكراهيات .يقول الروائي الالماني غونتر غراس حينما اطلعت على ملحمة جلجامش وجدت ان العراقي في لحظة الانفعال ليس له مثيل في الصراخ والغضب وقد تصل الحالة الى الانهيار العصبي ‘ معروف اجتماعيا ان العراقي في لحظات الالم والفقد يقوم بتمزيق ثيابه كنوع من الاحتجاج على كل منظومات الستر والقيم والاخلاق الملفقة والمنافقة والفاسدة . تلك حالة الانكار التي يعبر فيها عن تمزيق الثياب لكي يعّبر( يتجاوز) اللحظة ‘ وحالة العبور هذه تختلف عن تلك التي يقوم بها السياسي الفاسد او الاعلامي المهرج . تؤرخ لنا ملحمة جلجامش ( وهي اول نص روائي في التاريخ) كيف ان جلجامش صرخ امام موت صديقه انكيدو ‘ واستمرت هذه الصرخة الابدية حتى اليوم ‘ حيث ما زال العراقي لم يألف حالة الفقدان والموت رغم انه يعيش فيها كل يوم ككابوس ازلي ‘ الموت الذي يحف بنا من خلال الحروب والامراض والقصف والانفجارات والصراعات الطائفية والقومية ‘ وحوادث السير المروعة . مع السياسي العراقي الجديد والاعلامي الفلتة ‘ تضيع حدود المسافة بين الاستعراض والبطولة والنفخ والتعالي الاجوف وبين الغوغائية والتهريج الممسرح . يكمن الفشل والكارثة في ان هؤلاء وامثالهم عندما يتواجدون في اي مجتمع يصبحون مصدر تلويث اعلامي وسياسي. هذه النماذج الاستعراضية والاستعلائية ‘ لم يعد يهمها الاعلام ولا السياسة بعد ان حصلوا على غنائم لم يكن يحلمون بها ‘ مع ذلك يحتاجون المواقع الاعلامية والسياسية لحماية مصالحهم. رغم انهم الاشد كرها للسياسة الا انهم يتسترون بها من خلال تلك الاقنعة ‘ كذلك ابواق الاعلام ليس لديهم مشروع اعلامي واضح وانما اصبح الاعلام هو غطاء آمن للصفقات . لا يوجد في العالم سياسي او اعلامي يصرح بنزع ملابسه كنوع من التضامن او الاحتجاج ما عدا من نطلق عليهم بسياسي واعلاميي الصدفة . ولا يوجد في العالم من يطين راسه غيرنا ‘ كما لا يوجد من يشق ثوبه من الطول للطول غيرنا . هذه التراكمات المضنية من الحيف والظلم والانكسار والخديعة حولت بعض البشر من كائنات وديعة ومسالمة ونقية الى ذئاب بشرية جارحة . كل هذا من اجل ان لا يصرخ المواطن ولا يحتج ولا يعترض ولا يطالب بحقوقه ويبقى مبحلق فقط بسترة الاعلامي وقميص البرلماني.