كتب: رياض الفرطوسي
يُعتبر التعداد السكاني أداة أساسية للتخطيط والتنمية في أي دولة، حيث يوفر معلومات دقيقة حول السكان وتركيبتهم الاقتصادية والاجتماعية. وفي حين أن الدول المتقدمة تجاوزت الحاجة إلى إجراء تعدادات سكانية دورية بفضل اعتمادها على أنظمة رقمية محدثة باستمرار، لا يزال العراق يعتمد على الطرق التقليدية لجمع البيانات السكانية . في الدول المتقدمة، تُدار البيانات السكانية من خلال أنظمة رقمية متطورة تعتمد على السجلات المدنية الوطنية، والتي تُحدث بشكل يومي. يتم ذلك من خلال الربط الإلكتروني بين مؤسسات الدولة المختلفة مثل الصحة، التعليم، الهجرة، والعمل. توفر هذه الأنظمة بيانات دقيقة عن الولادات، الوفيات، الهجرة، والزواج، مما يُغني عن التعداد التقليدي .
تسفيد هذه الدول من
اولا : السجلات الإلكترونية المتكاملة: حيث تُسجل كافة الأحداث الحياتية بشكل لحظي
ثانيا : التكنولوجيا المتقدمة: بما في ذلك الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة
ثالثا : البنية التحتية الرقمية: التي تربط جميع المواطنين برقْم وطني موحد يسهل تتبع البيانات
في العراق، لا تزال هناك عقبات تحول دون الانتقال إلى نظام رقمي شامل لتحديث البيانات السكانية، منها :
أ . نقص البنية التحتية الرقمية: العديد من المؤسسات الحكومية تعتمد على أنظمة ورقية أو إلكترونية غير متكاملة
ب . ضعف التحديث الآني للبيانات: البيانات تُجمع وتُحدث بشكل غير منتظم
ج . التحديات الأمنية والإدارية: المناطق التي تعاني من أوضاع أمنية معقدة يصعب الوصول إليها لجمع البيانات
د . غياب التنسيق بين المؤسسات: لا يوجد نظام موحد يربط المؤسسات الحكومية المختلفة لتبادل البيانات بسهولة
للانتقال إلى نموذج حديث لإدارة البيانات السكانية، يحتاج العراق إلى:
اولا. الاستثمار في البنية التحتية الرقمية: تطوير أنظمة إلكترونية متكاملة للسجلات المدنية
ثانيا. التشريعات الداعمة: وضع قوانين تُلزم الجهات الحكومية بالربط الإلكتروني وتبادل البيانات
ثالثا . التدريب وبناء القدرات: إعداد كوادر قادرة على إدارة وتحديث الأنظمة الرقمية
رابعا . الشراكات الدولية: الاستفادة من خبرات الدول المتقدمة في بناء نظم رقمية شاملة
التعداد السكاني في العراق يشكل ضرورة لتخطيط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لكن التحول إلى نظم رقمية محدثة يمكن أن يقلل التكاليف ويزيد من دقة البيانات. مع وجود الإرادة السياسية والاستثمار في البنية التحتية، يمكن للعراق أن يلتحق بركب الدول التي تعتمد على الأنظمة الرقمية، مما يعزز التنمية المستدامة في جميع القطاعات.
[19:47, 20/11/2024] العراق رياض: شرعية القوة وقوة الشرعية : بين فلسفة السلطة وتحولات الواقع
كتب رياض الفرطوسي
في خضم الأزمات المتكررة التي تسيطر على المشهد السياسي والاجتماعي، تبرز إشكالية العلاقة بين “شرعية القوة” و”قوة الشرعية”. الأولى تستند إلى السيطرة والهيمنة بالقوة المادية أو النفوذ، بينما الثانية تنبع من الاعتراف الشعبي والقيم الأخلاقية والمؤسساتية التي تؤطر السلطة وتجعلها مستدامة ومقبولة. في هذا السياق، يشهد العراق تحولات عميقة، رغم الصخب والفوضى التي تغلفه، تعكس صراعاً بين هذين المفهومين. لطالما كان التغيير في العراق قائماً على “شرعية القوة”، سواء عبر انقلابات عسكرية أو ثورات مسلحة، حيث تُفرض السلطة بالقوة دون مراعاة للبنية الاجتماعية التي تنتجها. هذه الممارسات، التي عمّقت الاستبداد والانقسامات، جعلت النقد محصوراً في السلطة السياسية دون الالتفات إلى السلطة الاجتماعية، التي تعد المنتج الحقيقي لكل نظام سياسي . لكن مع الاحتلال الأمريكي، بدأ تحول نوعي، وإن كان بطيئاً، نحو نقد جذور الأزمة الاجتماعية التي تغذي الأنظمة الاستبدادية. هذا التغيير يمثل بداية الخروج من ثنائية “مدح المعارضة ونقد السلطة”، ليصبح النقد أكثر شمولية وعمقاً، رغم ما يواجهه من صعوبات في ظل بيئة مليئة بالخوف والعنف . يتضح التحول أيضاً في الفجوة المتزايدة بين النخب السياسية والثقافية والجماهير. فعجز النخب عن تقديم حلول حقيقية أو فهم تعقيدات الواقع أدى إلى انهيار مكانتها. في المقابل، ظهرت شرائح من المجتمع، خاصة النساء، تدعو إلى ثقافة جديدة تقوم على نقد السلطة الاجتماعية وأوهامها، متجاوزة الخطابات التقليدية البالية . ورغم أن هذه التحولات قد تبدو صغيرة، إلا أنها تكتسب شرعيتها من أصالتها وقدرتها على تحدي منظومة القيم المهترئة. التاريخ يثبت أن التغيير الحقيقي دائماً ما يبدأ بفرد أو قلة تتبنى أفكاراً ثورية قادرة على إحداث التحولات الكبرى . النظام السياسي القائم في العراق يفتقد إلى قوة الشرعية. فهو ليس نظاماً متماسكاً يحمي السيادة والأمن والاستقلال، بل هو سلطة أحزاب متصارعة بعضها مرتهن بالخارج . ومع تضعضع صورة النظام ، يتضح شيئاً فشيئاً شكل النظام المطلوب، الذي لا يمكن تحقيقه إلا بإعادة صياغة السلطة جذرياً. هذا العجز السياسي يقابله انفتاح شعبي متزايد على العالم بفضل ثورة الاتصالات، ما أدى إلى تحرير الوعي من احتكار النخب المحلية، التي أصبحت عاجزة عن فهم الواقع وتشابكاته. الجمهور اليوم يدرك بوضوح أن السلطة القائمة تستمد قوتها من الهيمنة وليس من الشرعية الحقيقية .اليأس الذي يسيطر على بعض الفئات اليوم هو رد فعل طبيعي على واقع مضطرب وقاسٍ، لكنه قد يكون أيضاً محطة انتقالية نحو المبادرة. التجارب العالمية أثبتت أن التحولات العميقة تحتاج إلى وقت، وأن حتى أكثر الأنظمة قوة وهيمنة لا تستطيع إيقاف تيار التغيير إذا كان شرعياً وأصيلاً. في مواجهة الأنظمة التي تعتمد على شرعية القوة، يبرز التحدي في تعزيز قوة الشرعية من خلال بناء منظومة سياسية واجتماعية قائمة على القيم والمعرفة واحترام إرادة الشعوب. التحولات الجارية في العراق، رغم بطئها، تمثل إرهاصات لمرحلة جديدة، لن تكون فيها القوة المادية وحدها كافية لاستدامة السلطة . إعادة صياغة العلاقة بين شرعية القوة وقوة الشرعية هي المفتاح لبناء مستقبل أكثر استقراراً وعدالة. هذا التحول يتطلب تعزيز الوعي الشعبي، تمكين النخب المثقفة الصادقة، وتحطيم منظومة الفساد والاستبداد التي تستنزف قدرات الشعوب وتقوض تطلعاته