بقلم : عبدالقادر العفسي
مدينة العرائش، تلك الحاضرة المطلة على المحيط الأطلسي، ليست مجرد امتداد جغرافي، بل هي حقل رمزي يختزن في ذاكرته سرديات الماضي العريق،من الأمازيغ و من الأندلسيين الذين وطّنوها بهويتهم، إلى البرتغاليين الذين تركوا بصماتهم في جدرانها… وحتى البسطاء الذين صنعوا تفاصيل يومياتها ،عندما نفكر في ضياع العرائش لا نفكر فقط في تآكل العمران أو في ضعف البنى التحتية، بل في انكسار رأس المال الرمزي الذي يجعلها أكثر من مجرد مدينة .
ضياع العرائش، وانحدارها في وجه اللامبالاة، يمثل انقطاعًا عن “الهابيتوس” الخاص بأبنائها، ذلك الذي شكّله تاريخها وثقافتها المحلية، فالمدينة ليست فقط أزقتها وأسواقها، بل هي فضاء للذاكرة الجمعية، مكان للطقوس، حقل للعلاقات الاجتماعية التي تنسجها تقاليد سكانها وصراعاتهم مع التحولات التي تعصف بهم .
أما المغرب كوطن، فإنه تجسيد لحقل أكبر، حيث تتصارع فيه القوى المختلفة على السلطة الرمزية والمادية، ضياع الوطن في هذا السياق ليس مجرد فشل سياسي أو اقتصادي، بل هو تجريد ممنهج لرأسماله الرمزي: اللغة، الهوية، القيم، التضامن الاجتماعي، والقدرة على إنتاج المعنى المشترك …
مدينة العرائش في هذا الوطن تمثل حالة مصغرة من الحقل الاجتماعي للمغرب، حيث يتجلى العنف الرمزي من خلال التهميش، والإقصاء، وتآكل كل المعالم ، كل ذلك يترك أبناءها في حالة اغتراب داخلي، وكأنهم يعيشون في حقل اجتماعي لا يعترف برأسمالهم الثقافي ولا بأحلامهم .
إن الآهات التي تخرج من أعماق هذه المدينة ليست مجرد تعبير عن ألم شخصي، بل هي مقاومة رمزية ضد منظومة الهيمنة التي تعيد تشكيل الحقل الاجتماعي لصالح من يملكون القوة الاقتصادية والسياسية، إنها صرخة جماعية لاستعادة الكرامة الرمزية التي تربط العرائش بجسد المغرب، كجزء من وطن لم ينقطع أبناؤه عن الأمل في إعادة تعريف وجودهم ومكانتهم .
في مدينة العرائش وضواحيها، وبين أزقة الإقليم وحقوله، تُنسج يوميًا قصص مأساوية لشباب يافع، بل وأطفال، يعبرون البحر نحو إسبانيا، مدفوعين ليس فقط برغبة في اكتشاف عالم جديد، بل هربًا من واقع يكاد يخنق أحلامهم قبل أن تتشكل .
إنها ظاهرة تتجاوز مجرد أرقام المهاجرين غير النظاميين أو تقارير المنظمات الحقوقية، لتكشف عن أزمة أعمق وأشد تعقيدًا ، الأزمة ليست فقط في قوارب الموت التي تحملهم إلى الضفة الأخرى، بل في القوارب الغارقة داخل أرواحهم منذ البداية؛ قوارب الأحلام المحطمة، والطموحات الموءودة، والأمل المصلوب على جدران الفساد والبيروقراطية .
في العرائش والإقليم المحيط بها، يبدو المستقبل مفردة غريبة، تكاد تفقد معناها في قاموس الحياة اليومية، مدارس تهالكت جدرانها، مستشفيات تئن تحت وطأة الإهمال، ومرافق حكومية تتصدرها وجوه عابسة لا تعرف سوى لغة المحسوبية والرشوة، كيف لشاب أو طفل أن يرى أفقًا في هذا المشهد؟ كيف له أن يتخيل مستقبلاً مشرقًا بينما الحاضر نفسه مُثقل بالظلام؟
إذا تأملنا هذا المشهد من زاوية فلسفية، فإننا نجد أن الهجرة هنا ليست مجرد فعل مادي يتجسد في عبور الحدود، بل هي فعل رمزي يعبر عن انقطاع العلاقة بين الإنسان ووطنه… فالوطن، كما تصوره الفلسفات السياسية، ليس فقط أرضًا نعيش عليها، بل هو سياق اجتماعي ونفسي يضمن للفرد الإحساس بالانتماء والكرامة، عندما تتآكل هذه العلاقة بسبب غياب العدالة الاجتماعية وتفشي الفساد، يصبح الوطن مفهومًا فارغًا، أشبه بجسد بلا روح .
من الناحية السوسيولوجية، يمكن اعتبار هذه الهجرة الجماعية نوعًا من المقاومة الصامتة ضد واقع يفتقر إلى أدنى مقومات العيش الكريم، إنها رسالة يوجهها المهمشون إلى الدولة : “لقد فشلتم في احتضاننا، وسنبحث عن حياة أفضل بأنفسنا”، لكن هذا الفعل، رغم رمزيته، لا يُغير في الواقع شيئًا، بل يرسخ دورة من الإقصاء والتهميش ، فحين يهاجر الشباب والأطفال، يفقد المجتمع طاقاته الحية، وتزداد هشاشة النسيج الاجتماعي .
إن تهميش المدن الصغيرة مثل العرائش ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج عقود من السياسات التنموية العرجاء التي تنظر إلى الأطراف كهوامش غير ذات أهمية، هذا المنظور المركزي يعكس فلسفة حكم لا ترى في الإنسان استثمارًا مستدامًا، بل عبئًا يُدار بحد أدنى من الاهتمام ، في هذا السياق تصبح الهجرة وسيلة لإعلان القطيعة مع نظام اجتماعي واقتصادي يختزل الأفراد في أرقام وإحصائيات .
المسؤولية هنا تتجاوز الأفراد لتصل إلى بنية الدولة نفسها، تلك التي تخلت عن دورها في بناء الإنسان قبل أن تسعى إلى بناء الحجر، غياب المشاريع التنموية ليس مجرد تقصير، بل هو انعكاس لفلسفة حكم ترتكز على تهميش الأطراف وتركها لمصيرها ، في ظل هذا الواقع يصبح الهروب نحو المجهول أقل خطورة من البقاء في واقع يعرفه الجميع ولا يريد أحد الاعتراف به .
الفساد هو المحرك الخفي لهذه الدوامة، إنه ليس فقط في الرشاوى التي تُدفع أو المشاريع التي تُفشل، بل في العقول التي تبرر هذا الفساد وتعتاد عليه، وفي الأنظمة التي تتسامح معه بل وتغذيه ، الفساد في العرائش ليس مجرد عرض جانبي، بل هو جزء لا يتجزأ من المشهد، يقتل الطموح في مهده ويُفرغ المؤسسات من جوهرها، كيف يمكن لدولة تدّعي الحرص على مصلحة مواطنيها أن تترك مؤسساتها تغرق في الوهم؟ كيف لها أن تتجاهل أن ما تسميه مشاريع تنموية هو مجرد قوالب ورقية لا تصمد أمام أول اختبار؟
لكن، ماذا عن الطفل الذي يقف على شاطئ العرائش، يحدق نحو الأفق؟ هل يفكر في المخاطر؟ ربما، هل يخشى الموت؟ بالتأكيد. ، لكنه في لحظة القرار يرى أن الخوف من البقاء يفوق الخوف من الرحيل، حين تتحول فكرة البقاء في الوطن إلى موت بطيء، يصبح الهروب خيارًا عقلانيًا في عقول حتى أصغر المهاجرين !
قد تُلقي الدولة باللوم على الظروف الاقتصادية العالمية، أو على شبكات التهريب، أو حتى على العائلات التي تغامر بأبنائها، لكن الحقيقة أبسط وأقسى: إنهم يهربون لأنهم لا يرون أنفسهم في هذا الوطن، يهربون لأنهم يشعرون أن وجودهم هنا لا يساوي شيئًا في ميزان الاهتمام الرسمي، يهربون لأن أحلامهم تتسع لهم، لكن وطنهم لا يفعل …!
إن الحديث عن الهجرة لا يمكن أن ينفصل عن الحديث عن الكرامة، فحين تُهدر كرامة الإنسان في طوابير الانتظار الطويلة أمام إدارة مترهلة، أو حين يضطر للاستجداء من أجل حقه الطبيعي في التعليم أو الصحة أو ورقة إدارية أو تسوية وضعية أو السرقة باسم القانون…يصبح من السهل أن نرى كيف تتحول قوارب الموت إلى قوارب نجاة .
هنا يظهر تساؤل مركزي: لماذا تفشل الدولة في إدراك أن الكرامة الإنسانية ليست مجرد شعار تُرفع في المناسبات الوطنية، بل هي حجر الزاوية لأي مشروع تنموي حقيقي؟ لماذا تتحول كل محاولة إصلاحية إلى مجرد حركة استعراضية تفتقر إلى العمق والاستدامة؟ الإجابة تكمن في غياب رؤية شمولية تُدرك أن الاستثمار في الإنسان هو الأساس لأي نهضة .
الحلول ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة، تبدأ بإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، بخلق مشاريع تنموية حقيقية تستهدف الإنسان قبل الحجر، وبمحاربة الفساد بلا هوادة، ولتكن هذه المشاريع واضحة وشفافة، لا شعارات جوفاء تُعلن في المنابر ثم تختفي في دهاليز البيروقراطية أو مبادرات فاسدة تنهب من مسؤولي الدولة و موظفيها …! يجب أن تتجاوز هذه المشاريع فكرة الترميم السطحي إلى إعادة بناء شاملة لمنظومة القيم والمؤسسات .
الأهم من ذلك كله، يجب أن يكون هناك اعتراف حقيقي بأن المأساة ليست في القوارب التي تغرق، بل في وطن يغرق بأكمله تحت وطأة الإهمال، يجب على الدولة أن تسائل نفسها: كيف يمكن أن نعيد تعريف معنى الوطن ليصبح مكانًا يحتوي الجميع؟ كيف نعيد تشكيل العقد الاجتماعي ليقوم على العدالة والمساواة، لا على الامتيازات والمحسوبيات؟
العرائش ليست مجرد مدينة تعاني، بل هي مرآة تعكس واقعًا أوسع يمتد عبر أرجاء البلاد، إنها دعوة للتفكير العميق في أسباب هذا النزيف البشري، ليس لتبريره أو تقبله، بل لفهمه والعمل على إيقافه، فالهروب لن يكون يومًا حلاً، لا للمهاجرين ولا للدولة، وإنما الاعتراف والبدء بالتغيير هو الخطوة الأولى نحو مستقبل يستحقه الجميع .