تامل معي عنوان المقال. اغمض عينيك. تخيل نفسك تكتب معي هذا النص من الالف الى الياء..
هل من الممكن يوما ما ان يتفوق الذكاء الاصطناعي على عبقرية الدماغ البشري ؟
تعال معي في رحلة الاجابة عن هذا السؤال الطموح و الغريب في الوقت نفسه.
يشهد عالم اليوم تسارعًا هائلاً و نموا مطردا في الادوات و البرامج التكنولوجية بشكل يصعب وصفه و محاصرته. و ها نحن انتقلنا في الثلاثين سنة الاخيرة من فورة الانترنت و التجارة الالكترونية بداية 1990 الى ثورة مواقع التواصل الاجتماعي (2004_2006) ، مرورا باكتساح المنصات الرقمية الفيديوغرافية المشهد الاعلامي، و وصولا الى معجزة الذكاء الاصطناعي التي ارتسمت ملامحها بقوة في سماء الثورة الصناعية الخامسة منذ ازمة كورونا ( 2019)، و على امتداد السنوات التي اعقبت زمن ما بعد الوباء، بل الى حدود كتابة هذه السطور (مايو 2024).
كل شيء في الكون يدور و يتحرك بجنون.. العالم يهرول نحو المزيد من التقدم التكنولوجي و ما الانجازات التقنية الضخمة المسجلة في هذا المعترك و الحلبة التنافسية الا غيض من الفيض المقبل، بعبارة اخرى : نحن لا نتعامل الان الا مع الجزء البارز من جبل جليد الذكاء الاصطناعي..
و من المؤكد ان القادم اكثر ادهاشا و ابهارا و خطرا..
و هنا، يلوح حاليا سؤال جوهري و ملح يشغل أذهان العلماء والفلاسفة على حد السواء : مستقبلا، هل سيأتي يوم ما يتفوق فيه الذكاء الاصطناعي على قدرات الدماغ البشري ؟
في هذا السياق، نشرت مؤخرًا دراسة ثورية أجرتها جامعة أكسفورد عام 2024 لتُقدم وجهة نظر جديدة حول هذا الموضوع، حيث تشير إلى أنّ الدماغ البشري لا يزال يتفوق على الذكاء الاصطناعي في قدراته اللامحدودة في التعلم.
و تدحض هذه الدراسة الاعتقاد السائد بأنّ الذكاء الاصطناعي سيُصبح عاجلاً أم آجلاً ذا وعي مستقل و ارادة حرة و ذكياً بشكل خارق يجعله يستطيع قيادة و توجيه البشر..
دعونا نبين امرا بالغ الاهمية و مؤداه ان الذكاء الاصطناعي يتعلم بطريقة مختلفة، حيث تعتمد معظم أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة، بما في ذلك تلك التي تحتوي على شبكات عصبية اصطناعية تشبه الدماغ البشري، على نظام يشتغل وفق ما يسمى بالانتشار العكسي.
ماذا يعني هذا ؟
بكل بساطة، يجب ان نذكر انه خلال الانتشار العكسي يتم تدريب الشبكات العصبية من خلال إعطائها مدخلات محددة لاجل قياس مدى دقة مخرجاتها. و فيما بعد يتم تعديل الروابط بين الخلايا العصبية لتصحيح أي أخطاء، مما يؤدي إلى تحسين أداء الشبكة مع مرور الوقت.
ليس هذا كل شيء، اذ كشفت دراسة أكسفورد أنّ الدماغ البشري يتبع نهجًا مختلفًا تمامًا في التعلم، فبدلاً من الاعتماد على الانتشار العكسي، يعتمد الدماغ على التكوين المستقبلي. و في هذا النهج، يتنبأ الدماغ بالنتائج المحتملة بناءً على المدخلات الحالية، ثم يُعدّل سلوكه بناءً على هذه التنبؤات.
و حسب الدراسة نفسها، فإنّ التكوين المستقبلي يمنح الدماغ كفاءة تعلم أعلى بكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي المعتمدة على الانتشار العكسي، فالبشر قادرون على التعلم من تجربة واحدة، بينما تتطلب أنظمة الذكاء الاصطناعي مئات أو آلاف ر ربما ملايين عمليات التدريب للوصول إلى نفس المستوى من الدقة.
و يُقدم لنا هذا الاكتشاف ميزة بشرية فريدة، وهي القدرة على التكيف بسرعة مع المواقف الجديدة والتعلم من الأخطاء بشكل فعال. فمن خلال التنبؤ بالنتائج المحتملة، يمكننا اتخاذ قرارات مدروسة وتحسين أدائنا بشكل مستمر.
في نهاية هذا المقال، يجب الاشارة الى فكرة محورية، ربما نعود اليها في وقت لاحق لمعالجتها و اضاءتها بالمزيد من التفاصيل : يُثير التقدم في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخاصةً في مجال التعلم، العديد من الأسئلة الأخلاقية حول مستقبل البشرية. فمن المهم النظر في التأثيرات المحتملة لهذه التقنيات على المجتمع وضمان استخدامها بشكل مستدام، معتدل و مسؤول. نضيف ايضا قبل ان نلقاك، عزيزي القارىء، في مناسبة قادمة، ان دراسة جامعة أكسفورد التي بنينا عليها هذه الورقة تقدم نظرة ثاقبة حول الاختلافات الجوهرية بين التعلم البشري و تعلم الالات والربوتات، و تُشير هذه الدراسة القيمة إلى أنّ الدماغ البشري يتمتع بكفاءة عالية و قدرات لا محدودة و اعجازية في التعلم تتجاوز قدرات الذكاء الاصطناعي.
في نظرنا هذه الافضلية لعبقرية العقل البشري تفسرها عدة عناصر :
. قوة الحدس
. الذكاء الروحاني
. التعاطف
. قوة المشاعر
. الخيال الجامح
. الارادة الواعية المستقلة
و هذه العناصر كلها دون استثناء ملكات ربانية و اعجاز الهي خالص و لامحدود جعل و سيجعل اطلاقا الانسان في موقع الشمولية و التحكم و الهيمنة على مخرجات و ربوتات و ادوات الذكاء الاصطناعي.
* كاتب، استاذ باحث، خبير الرقمنة و الذكاء الاصطناعي
المعهد العالي للاعلام و الاتصال، الرباط