د. مهدي عامري
” اذا كنت مع الحق كنت مع كل دين” ابن عربي
منذ زمن طويل، تُعرف فرنسا بتقاليدها العلمانية الصارمة ومعاداتها لرجال الدين، إذ تعتبر التجديف ضد الدين ركيزة أساسية لحرية التعبير في مجتمعها “الديمقراطي“.
و يعكس هذا التوجه الانفصال الكبير بين الدولة والدين، مما يؤدي إلى مواقف تعبر عن عدم احترام الأديان والرموز الدينية في المجتمع الفرنسي.
و اذا امعنا النظر في السياق الفرنسي، لوجدنا ان العلمانية تتجذر بشكل عميق في النظام السياسي والاجتماعي، حيث تسعى الدولة إلى الحفاظ على “حيادها” تجاه جميع الأديان، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تصادم مع مشاعر المتدينين الذين يرون في بعض السياسات والقرارات انتهاكاً لمعتقداتهم.
و لعل العلمانية الفرنسية، التي تستند إلى مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة، تهدف إلى ضمان أن لا تهيمن أي ديانة على الحياة العامة، و لكن تطبيقها بشكل صارم قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
و تتبنى الدولة الفرنسية منذ امد بعيد موقفاً غريبا صادما يعتبر أن حرية التعبير تشمل الحق في انتقاد الأديان والسخرية منها، مما يثير حفيظة المجتمعات الدينية التي تشعر بأن قيمها ومعتقداتها تتعرض للهجوم.
ورغم أن هذا الموقف قد يعزز بالنسبة للمدافعين عنه مناخ الحرية، إلا أنه يسبب في واقع الامر استياءً واسع النطاق بين المؤمنين الذين يرون في ازدراء الرموز و الايقونات المقدسة تجاوزاً للحدود المقبولة و افتضاضا غير مبرر لحرمة الاديان.
و تواجه فرنسا تحدياً مستمراً في تحقيق التوازن بين حرية التعبير وحقوق الأفراد في ممارسة معتقداتهم دون إساءة أو استهزاء. وفي هذا الإطار، ثمة جدل مستمر حول ما إذا كان من الممكن أن تتعايش العلمانية الصارمة مع احترام حقيقي للأديان.
و في هذا الصدد، يعبر العديد من الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين عن قلقهم من كون العلمانية قد تتحول إلى أداة للقمع الثقافي بدلاً من أن تكون وسيلة لضمان الحرية والمساواة.
و يتموقع هذا القلق الفلسفي الخالص في محيط محلي و دولي تتزايد فيه التوترات بين الدولة والجماعات الدينية، مما يدعو إلى ضرورة البحث عن حلول جديدة. و هنا يقترح البعض تعزيز الحوار بين الدولة والمجتمعات الدينية لتحقيق تفاهم أفضل حول كيفية تطبيق العلمانية بطرق تحترم التنوع الديني والثقافي، مؤكدين ان هذا الحوار يمكن أن يساعد في بناء مجتمع أكثر توازناً وعدالة، حيث يمكن للجميع التعبير عن معتقداتهم بحرية مع احترام مشاعر الآخرين.
لعلك مثلي لم تكن متفرجا سلبيا او مستهلكا عديم الاحساس ازاء ما حدث في الحفل الافتتاحي لاولمبياد باريس 2024.
فقبل ايام قليلة، أثارت فعاليات حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024 جدلاً واسعاً بعدما تم تقديم عرض “دراغ كوين” الذي يتناول محاكاة ساخرة للوحة “العشاء الأخير” لليوناردو دا فينتشي.
و أثار هذا العرض حفيظة عدد كبير من المثقفين ورجال الدين والسياسة على المستوى العالمي، لدرجة ان البعض وجه اصابع الاتهام لهذا العرض بحكم انه يروج للشذوذ الجنسي ويهين المسيحية و بالتالي باقي الأديان السماوية.
كما اعتبر النقاد العرض المشار اليه تعبيراً مباشرا بل فجا عن انحدار أخلاقي يتنافى مع قيم الاحترام الواجب للأديان، مؤكدين أن ازدراء “ماما فرنسا” للدين المسيحي و اهم رموزه يشير الى ذاك التشرذم الروحي والانحطاط الخلقي الذي تعاني منه ليس فقط بلاد الفرنجة بل، و على مستوى عام، اغلب المجتمعات الغربية ان لم تكن كلها.
و لعل من شاهد عرض ” دارغ كوين” و كان في قلبه و عقله شيء من اليقظة و التوازن النفسي قد اعتبر بلا شك انه يهاجم الرموز الدينية بشكل صارخ و صريح ويعتدي على حرمة الأديان السماوية، بما يخدش المعتقدات الروحية لملايير المؤمنين حول العالم.
و استخدم العرض المثير للجدل شخصية عارية لتمثيل المسيح، في إهانة مباشرة ليس فقط للمسيحيين، بل لكل من يحترم الدين ويقدس رموزه.
هذه ليست المرة الاولى.. و للاسف لن تكون الاخيرة. فالغرب و فرنسا بالخصوص.. هذه الكتلة الفاسدة من العالم، و التي تدعي الحضارة و حملها لمشعل الرقي و التنوير، لا تكل و لا تمل من ترويج الاباحية والتفاهة على حساب القيم الأخلاقية والدينية.
نحن نعتقد ان عرض ” دارغ كوين” ليس حدثا معزولا في الزمان و المكان.
لماذا ؟
بكل بساطة، لانه يضع في مساحة الضوء الفجوة العميقة بين القيم الروحية التي تحافظ على تماسك المجتمعات، وبين التفاهة التي أصبحت تُروج في الغرب.
من جهة ثانية، قوبلت شطحات فرنسا في حفل افتتاح اولمبياد باريس 2024 برفض العديد من الدول حول العالم للقيم الغربية التقليدية، التي كانت تُعتبر الى عهد قريب عالمية.
عزيزي القارىء، الحديث حول هذا الموضوع طويل لا ينتهي و لا يمكن الاحاطة به في مقال واحد..
لكن، في الختام، دعني اشاركك بعض الافكار المهمة التي استطعت استخلاصها من تفاعلي و قراءتي الفاحصة لحفل افتتاح اولمبياد باريس 2024 :
- ان احتقار شخص السيد المسيح في حفل ” السخافة و المسخرة” يساوي حرفيا احتقار جميع الرسل و الانبياء عليهم الصلاة و السلام، و هذا امر مرفوض و لا يمكن ان يتفق معه المؤمنون حول العالم،
- ان احترام الأديان هو الأساس المتين للسلام العالمي، و من المؤكد ان أي انتهاك لهذا الاحترام يمثل دعوة خبيثة للفوضى والنزاع،
- من الثابت ان اهانة الرموز الدينية تمثل محاولة شريرة لتقويض الأسس الروحية للمجتمع، وهو أمر يجب أن يُدان بشدة، و مما لا شك فيه ان ما يحدث في الغرب، و في بعض دول العالم الاسلامي للاسف، من ترويج للإباحية والتفاهة يمشي في نفس الاتجاه، و يعكس لا محالة الخواء الاخلاقي المخيف لهذه المجتمعات، بما يشكل تهديداً ليس فقط للشعوب الغربية، بل للبشرية جمعاء،
- نؤكد أن احترام الأديان جزء لا يتجزأ من احترام الإنسانية، و نكرر ان أي تقليل من شأن الرموز الدينية يعبر عن تقليل شأن الإنسان نفسه،
- ان الاحتفال بقيم التنوع يجب ألا يتعارض مع احترام الرموز الدينية، لأن الأديان تشكل جزءاً أساسياً من الهوية الانسانية.