د. مهدي عامري
> “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ” (سورة الزمر: 9).
على مر الدهور و العصور لطالما كانت الأنظمة التعليمية محل نقاش وجدل واسع بين الفلاسفة والمربين بين من يراها أداة لتحرير العقول وتنمية التفكير النقدي، وبين من ينتقدها لكونها تحولت إلى قوالب جامدة تنتج أجيالًا تفتقر إلى الإبداع والقدرة على التفكير المستقل.
في هذا السياق، نجد أن النقد الموجه للنظام التعليمي القائم على التلقين والحفظ يزداد، حيث يُنظر إلى هذه الأنظمة على أنها مسؤولة عن إنتاج جيل من “الروبوتات” البشرية، ذات عقول مبرمجة على حفظ المعلومات واسترجاعها عند الطلب، دون أدنى قدرة على الابتكار أو الإبداع.
سنستعرض في هذا المقال أفكار جون بياجيه، و نيل بوستمان، و فلاسفة آخرين حول هذا الموضوع التربوي المهم، مع تعزيز الأفكار التي تبرز الحاجة إلى إصلاح شامل في طرق التعليم الحالية.
بداية، لعل واحدة من أكثر الانتقادات شيوعًا للنظام التعليمي التقليدي هي تركيزه المفرط على الحفظ والتلقين. و لتشريح هذه المعضلة يمكن ان نستحضر جون بياجيه، عالم النفس السويسري الشهير، الذي كان من أوائل من أشاروا إلى مخاطر هذا النهج ، حيث اعتقد أن التعليم يجب أن يركز على تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداعي لدى الأطفال.
لماذا في نظركم ؟
الاجابة بسيطة للغاية : من خلال التلقين والحفظ، يُحرم الطفل من فرصة بناء مفاهيمه الخاصة واكتساب القدرة على حل المشكلات بطرق مبتكرة. و في هذا الصدد يشير بياجيه إلى أن التعلم الحقيقي يحدث عندما يتفاعل الطفل مع بيئته ويكون لديه الحرية لاكتشاف العالم بنفسه، وليس عندما يُطلب منه حفظ الحقائق وإعادة إنتاجها.
اضافة الى الافكار النيرة و الثورية لجون بياجيه من الممكن ان نستشهد بنيل بوستمان، الكاتب والمفكر الأمريكي، الذي عزز هذا النقد بتركيزه على “تسلية أنفسنا حتى الموت”، حيث يوضح كيف أن المجتمع الحديث جعل التعليم مجرد وسيلة أخرى للترفيه، بدلًا من أن يكون أداة لتنمية العقول.
ما المقصود اذا بذلك ؟
يرى بوستمان أن الأنظمة التعليمية تحولت إلى أماكن للتلقين الفارغ، حيث يتم تقليل التفكير النقدي إلى أدنى مستوى، ليتم استبداله بمعلومات سطحية سهلة الاستهلاك، ما ينتج جيلًا من الأشخاص الذين يفتقرون إلى العمق الفكري أو القدرة على التحليل النقدي. و هنا بالضبط يجول في بالي مثال صارخ : طرق التدريس في معاهد الاعلام بالعالم العربي و التي تركز على كل ما هو تقني و تغيب، ربما عمدا ، الجانب النظري و المفاهيمي في التعليم. و هذا المثال لوحده يكفي لان من مخرجاته جيل من صحافيي السخافة و الرداءة و الذين تجدهم بعيدين كل البعد عن الثقافة العالمة .. و الادهى و الامر فان اغلبهم يرتكبون الاخطاء اللغوية الفادحة في الكتابة و التعبير متوهمين ان الصحافي هو رجل تقني فحسب.
كلا ! الصحافي ، علاوة على خلفيته التقنية، يجب ان يكون موسوعة متنقلة تفحم الخصوم بقوة التحليل و عمق الفكر و القدرة على التفكير النقدي.
إن التعليم في بلدنا ليس بخير.. انه رجل مريض عجز الاطباء عن تشخيص علله و اسقامه. ان التركيز على الحفظ والتلقين يؤدي إلى تحويل عقول الطلاب إلى مجرد مستودعات للمعلومات، دون القدرة على توظيف هذه المعلومات بطرق مبتكرة أو فاعلة. و هذا النهج يعزز إنتاج أجيال تفتقر إلى القدرة على التفكير النقدي والإبداعي، مما يؤثر سلبًا على المجتمع ككل. فالأشخاص الذين يتم تعليمهم بهذه الطريقة السطحية يصبحون غير قادرين على القيادة أو اتخاذ القرارات المهمة في حياتهم الشخصية أو المهنية، ما يساهم في خلق مجتمع يسوده الخنوع و الامتثال والركود بدلًا من الابتكار والنمو.
ان هذا النوع من التعليم السطحي المشار اليه اعلاه كان منذ امد بعيد موضوعًا نقديًا رئيسيًا للعديد من الفلاسفة الذين اهتموا بإصلاح وتطوير الأنظمة التعليمية.
و من ضمنهم نجد جون ديوي، الفيلسوف والمربي الأمريكي، الذي كان من أوائل من دعوا إلى تحويل التعليم من مجرد نقل للمعرفة إلى تجربة تفاعلية تدمج بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي. علاوة على ذلك فان دوي انتقد بشدة الأنظمة التعليمية التقليدية التي تركز على الحفظ والتلقين، حيث رأى أن مثل هذه الأنظمة تعيق نمو التفكير النقدي والإبداعي. و بدلاً من ذلك، شدد على أهمية أن يكون التعليم عملية تفاعلية تربط الطلاب بالبيئة والمجتمع، مما يساعدهم على تطوير مهارات حل المشكلات بشكل عملي.
من جانبه، أكد إيمانويل كانط على ضرورة استخدام العقل بشكل مستقل في التعليم. فبالنسبة له، التعليم ليس مجرد عملية تلقين للمعرفة، بل هو وسيلة لتحرير العقل من القيود التقليدية، ليتمكن الفرد من التفكير بشكل مستقل ونقدي. و هنا يرى كانط أن التعليم يجب أن يعزز قدرات الإنسان على التفكير العقلاني والاستقلالية الفكرية، معتبرًا أن هذه القدرات هي التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات.
أما باولو فريري، الفيلسوف البرازيلي الشهير، فقد كان ناقدًا شرسًا لنظام التعليم التقليدي الذي أطلق عليه اسم “التعليم البنكي”. ففي هذا النظام، حسب فريري، يتم التعامل مع الطلاب كحاويات فارغة يجب ملؤها بالمعلومات دون اعتبار لتفاعلهم أو استيعابهم. و بالمقابل فان فريري يدعو إلى “التعليم الحواري”، وهو نوع من التعليم يشجع على التفاعل بين المعلم والطالب، مما يسهم في تعزيز التفكير النقدي والوعي الاجتماعي لدى الطلاب، ويجعل التعليم عملية تشاركية تسهم في تحرير العقول.
و ماذا عن مارتن هايدغر ؟ بدوره، تناول هايدغر التعليم من زاوية فلسفية عميقة، حيث ربطه بمفهوم “الوجود الأصيل”. فبالنسبة لهايدغر، فان التعليم السطحي يبعد الطلاب عن التفكير الفلسفي العميق، حيث يصبحون مجرد مستهلكين للمعلومات بدلاً من أن يكونوا مشاركين فعليين في فهم العالم والوجود. كما ان التعليم بالنسبة له يجب أن يكون عملية تستهدف فهمًا أعمق للوجود وليس مجرد اكتساب معرفة سطحية.
من خلال هذه الرؤى المتنوعة، يتضح أن الفلاسفة الذين انتقدوا التعليم السطحي سعوا جميعًا إلى تطوير نماذج تعليمية تركز على التفكير النقدي، والاستقلالية العقلية، والتفاعل النشط بين المعلم والطالب، مما يجعل التعليم أكثر معنى وتأثيرًا في حياة الطلاب.
كيف اذا نخرج من التعليم السطحي الى نمط اخر من التعليم به مقومات العمق و الابتكار و التفكير النقدي ؟
لتغيير هذا الواقع المر، يجب أن نعيد النظر في تعريفنا للتعليم.
يجب أن نتجاوز الفصول الدراسية ونعيد التعليم إلى جذوره الأساسية: الإبداع والابتكار و اذكاء نار المعرفة في القلب. و بناء على هذا، فان التعليم الحقيقي يجب أن يشمل تجارب تعليمية خارجية، مثل الورشات في الطبيعة وتعلم الحرف اليدوية والمهارات الناعمة. و من المؤكد ان هذه التجارب تعزز القدرة على التفكير الإبداعي، وتساعد الأطفال على تطوير مهاراتهم بطرق غير تقليدية، مما يؤدي إلى تنمية شاملة للعقل والجسد.
هنا، يجدر بنا أن نستحضر أفكار جون جاك روسو، الفيلسوف الفرنسي الذي كان من أبرز المنظرين لفكرة “التعليم الطبيعي”.
ففي كتابه “إميل”، يرفض روسو التعليم التقليدي القائم على الحفظ والتلقين، و يدعو إلى نهج تعليمي يرتكز على تربية الطفل في بيئة طبيعية تمكنه من اكتشاف العالم بنفسه وتطوير مهاراته بشكل عضوي. و يرى روسو أن الأطفال يجب أن يتعلموا من خلال التجربة المباشرة مع الطبيعة والبيئة المحيطة، حيث يجب أن تتشكل عقولهم بحرية بعيدًا عن القيود الصارمة للمناهج التعليمية التقليدية.
اكثر من هذا، فان روسو يؤمن بأن التعليم يجب أن يركز على الطفل نفسه، ويأخذ في الاعتبار احتياجاته الفطرية ورغباته الطبيعية. و لعل هذه الأفكار تتماشى بشكل كبير مع الحاجة إلى تعليم يشجع الابتكار والإبداع. فبدلًا من أن يكون التعليم عملية تلقين معلومات جامدة، يجب أن يكون تجربة حية تتيح للأطفال فرصة اكتشاف العالم بطريقتهم الخاصة. فمن خلال الورشات التعليمية في الطبيعة والحرف اليدوية، يمكن للأطفال أن يتعلموا التفكير النقدي وحل المشكلات بطريقة أكثر حرية وإبداعًا، مما يؤدي إلى تنمية عقول قادرة على الابتكار والتجديد.
علاوة على هذه المناهج العصرية لا يجب ان ننسى جزءا هاما من هويتنا الاسلامية التي يجب ان يبلورها و يصقلها التدريس الا و هو عالم الكتاتيب القرآنية؛ فهذه الاخيرة تلعب دورًا هامًا في تعزيز الفصاحة وسلامة اللغة العربية لدى المتعلمين. فمن خلال المداومة على حفظ القرآن، يتعلم اليافعون ليس فقط النطق السليم، بل أيضًا أسس اللغة التي تمكنهم من التعبير عن أفكارهم بوضوح ودقة.
ان هذا النوع من التعليم يجب ان يختلف عن التلقين التقليدي، حيث من المفروض ان يرتبط بالحفظ مع التفكير والتدبر في معاني النصوص القرآنية، مما يعزز مهارات التفكير النقدي والقدرة على الفهم العميق.
و على ذكر التلقين التقليدي من الاهمية بمكان الاشارة الى ان هذا الاخير لا يشجع بتاتا التلاميذ على اكتساب المعرفة بل يضع نصب اعينهم هدفا واحدا : النجاح السريع اعتمادا على العلامات المرتفعة.
يجب ان نقولها بكل وضوح (لان الصراحة الجارحة افضل من الكذب و الضحك على الذقون)؛ ان المدرسين الذين يستجيبون لرغبات الطلاب في الحصول على درجات مرتفعة دون جهد حقيقي يساهمون في تدمير التعليم. و عندما ينساق المعلمون خلف هذه الرغبات، فإنهم يخونون مهنة التدريس و يمارسون الدعارة الفكرية، و هذا يتعارض كليا مع قيم النزاهة والجدية التي من المفروض ان يكون المدرس الحامل الاول لها. ان هذا النوع من الممارسات لا يساهم فقط في تقويض جودة التعليم، بل أيضًا يرسخ قيمًا سلبية لدى الطلاب، مثل الاعتماد على الحيلة بدلاً من العمل الجاد.
و في المقابل، فان الطلاب الذين يهتمون فقط بالحصول على درجات مرتفعة دون اكتساب المعرفة الحقيقية يدمرون أنفسهم ومستقبلهم. و في النهاية، فان هؤلاء الطلاب يفتقرون إلى المهارات الحقيقية التي يحتاجونها في حياتهم المهنية والشخصية، مما يؤدي إلى تدهور مستوى الكفاءة في المجتمع ككل.
ان التعليم الذي تحتاجه الامم التي تتطلع الى الرقي في معراج المعرفة لا علاقة له البتة بالتلقين الجامد. ان ما نحتاجه هو الشغف.
إن الشغف بالمعرفة لا يمكن تدريسه في المدارس، بل هو نتاج جهد مشترك بين الأسرة والمجتمع. و في هذا السياق، على الاباء أن يغرسوا في أبنائهم حب القراءة والتعلم، وأن يشجعوهم على متابعة اهتماماتهم الفنية مثل الرسم، و الكتابة، والغناء باعتبار ان البيئة الأسرية الداعمة تلعب دورًا كبيرًا في صقل مواهب الأطفال وتوجيههم نحو تطوير مهاراتهم بطريقة تعزز من قدراتهم الإبداعية.
والابتكار.
ختاما، في خضم النقاش المستمر حول دور التعليم في المجتمع، يبدو واضحًا أن النظام التعليمي الحالي بحاجة ماسة إلى إصلاح جذري. فالأنظمة التي تركز على التلقين والحفظ تسهم في إنتاج أجيال من الأفراد الذين يفتقرون إلى القدرة على التفكير النقدي والإبداعي، مما يؤدي إلى تدهور المجتمع بشكل عام.
إن التعليم الحقيقي يجب أن يكون أكثر شمولية، وأن يشمل تجارب تعليمية تفاعلية غامرة تسهم في تنمية مهارات الطلاب بطرق متعددة. علاوة على ذلك، يجب تعزيز دور الأسرة والمجتمع في غرس الشغف بالمعرفة والتعلم لدى الأطفال، لضمان أن الأجيال القادمة ستكون قادرة على التفكير بشكل مستقل وقيادة المجتمع نحو مستقبل أفضل.
و في هذا السياق، يبرز المفكر المغربي عبد الله العروي كواحد من الأصوات التي تنادي بضرورة إعادة النظر في الأسس التي يقوم عليها التعليم في المجتمعات العربية. فالعروي يرى أن التعليم، في شكله الحالي، يساهم في إنتاج أجيال متقبلة للوضع القائم وغير قادرة على تحدي الأفكار السائدة أو التفكير بشكل نقدي.و بالنسبة للعروي، فان التعليم هو وسيلة لتشكيل الوعي الفردي والجماعي، ولذلك يجب أن يركز على تنمية القدرة على التحليل والتفكير النقدي بدلاً من تلقين المعلومات فقط.
و ختاما، و في ظل هذه التحديات التي تواجه التعليم في المجتمعات العربية، يطرح السؤال نفسه: هل نحن بحاجة إلى ثورة تعليمية تعيد تشكيل طرق التدريس والمناهج التعليمية لتواكب متطلبات العصر الحديث؟ هل يمكننا تجاوز النموذج التقليدي القائم على التلقين والحفظ نحو نموذج تعليمي يعزز الابتكار والإبداع ويمكّن الأجيال القادمة من مواجهة التحديات المستقبلية بفعالية؟…
هذه الأسئلة و غيرها تدعونا إلى إعادة التفكير في الدور الحقيقي للتعليم في حياتنا. فهل يجب أن نعيد النظر في أهدافنا التعليمية لنضمن أن التعليم ليس فقط أداة للحصول على الشهادات، بل هو أيضًا وسيلة لتنمية العقول وتحرير الفكر؟ و كيف يمكننا تطوير نظام تعليمي يزرع الشغف بالمعرفة ويعزز التفكير النقدي والإبداعي في عالم يتغير بسرعة هائلة، حيث القدرة على التعلم المستمر والابتكار أصبحت من أهم المهارات التي يجب أن نزرعها في عقول الأجيال القادمة؟
اننا كلنا مدعوون إلى التأمل في مستقبل التعليم، وتحدي النماذج التقليدية التي لم تعد تفي بالغرض في عالمنا المعاصر. و في هذا السياق فان الإصلاح التعليمي ليس خيارًا بل ضرورة، ويجب أن يبدأ بتغيير جذري في الطريقة التي نفهم بها التعليم، والدور الذي نريده له بغية بناء مجتمع قادر على مواجهة تحديات الغد