كتب رياض الفرطوسي
كتب لي احد الاصدقاء الاعزاء وهو رجل شغل منصب رفيع في الدولة سابقا ‘ تعليقا حول مقالنا ( التحديات والتحولات المستقبلية في ظل عودة ترامب ) . مما جاء في تعليقه : أثار مشهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وهو يلقي خطاب فوزه في الانتخابات دهشتي وإعجابي، فقد بدا ممتناً لجميع من وقفوا إلى جانبه وساهموا في تحقيق هذا الفوز، ولم يكتفِ بشكرهم بل صعد بهم إلى المنصة أمام جمهوره الكبير، معترفاً بدورهم علناً في هذا الإنجاز. هذا الموقف يجسد نموذجاً لقائد يحفظ الجميل ويعترف بالفضل، ما جعله يبدو قوياً في عيون مؤيديه ومخلصاً لمن وقفوا إلى جانبه . في المقابل، كثيراً ما نجد قادةً آخرين، ساندناهم وبذلنا الغالي والنفيس لدعمهم، لكنهم بعد وصولهم إلى مناصبهم لم يكتفوا بالتنكر لجهودنا، بل وجهوا سهام النقد والتهم إلى ظهورنا. هذه المفارقة تكشف المسافة العميقة بين القائد الذي يتسم بالوفاء ويقدّر مواقف من دعموه، وبين من ينسى فضل الآخرين بعد تحقيق مراده ..
اولا لنتحدث عن الوفاء كقيمة اساسية في القيادة : القائد الناجح هو من يدرك أن نجاحه لم يكن ليحدث لولا جهود الآخرين الذين آمنوا برؤيته وساندوه في كل خطوة. الوفاء هنا لا يُعبر فقط عن شكر لحظي أو كلمات طيبة، بل هو موقف إنساني وأخلاقي يعكس وعي القائد بأهمية من حوله وبأدوارهم في نجاحه. فالوفاء يمنح القائد قوة داخلية، ويعزز صورته أمام الناس، إذ يشعرون أن تضحياتهم لم تذهب سدى، وأن القائد الذي دعموه يستحق تلك التضحية. لنا أن نتخيل قادة مثل نيلسون مانديلا أو غاندي، هؤلاء لم يكونوا ليصنعوا أثرهم التاريخي لولا إيمانهم بأهمية الدعم الذي تلقوه من الجماهير، ولم يخونوا هذا الدعم يوماً بل احتضنوه وأثنوا عليه، مما خلق ولاءً وثقة بين القائد وجماهيره. الوفاء، إذن، لا ينحصر في مجال القيادة السياسية فقط، بل هو معيار إنساني يخلق روابط صلبة ومتينة بين القائد ومن يؤمنون به . ثانيا لنوضح الجحود والتنكر للجميل عندما تصل القيادة لمرحلة من السقوط الاخلاقي : على الجانب الآخر، هناك نماذج عديدة لقادة تنكروا لكل من ساعدهم بمجرد وصولهم إلى السلطة، متجاهلين الجهود والتضحيات التي بُذلت من أجلهم. هذا الجحود ينم عن ضعف في القيم ويفقد القائد مصداقيته تدريجياً. ففي اللحظة التي يستخدم فيها القائد سلطته الجديدة لتهميش أو حتى محاربة داعميه، يترك أثراً سيئاً ويبعث برسالة سلبية لجميع من يفكرون في دعم أي قائد في المستقبل . مثل هذه الحالات، التي تتكرر في العديد من الدول والمجتمعات، تجعل الناس يترددون في تقديم دعمهم أو المشاركة السياسية بحرارة، ما يعكس إحباطاً واسعاً من القادة الذين لا يعيرون اهتماماً لجهود الآخرين. التنكر للجميل ليس ضعفاً أخلاقياً فحسب، بل يُعد تدميراً لبنية المجتمع وقيمة . والقضية الثالثة هي التأثيرات السلبية للجحود على المجتمع : إن ظاهرة الجحود في القيادة لا تنحصر آثارها على الأفراد المتضررين فحسب، بل تمتد لتؤثر على المجتمع ككل. عندما يفقد الناس الثقة في القادة بسبب الجحود، تتزعزع روح التضامن والمشاركة العامة، ويصبح العمل السياسي والاجتماعي محاطاً بحالة من التشكيك والتردد. قد يختار الأفراد، بدافع من التجارب السلبية المتكررة، الابتعاد عن الانخراط في العمل العام والاكتفاء بدور المتفرجين، وهو ما يُضعف دور المجتمع في مساءلة القادة ودعم القضايا المهمة . يتكرر هذا النمط في المجتمعات التي تعاني من تاريخ طويل من القمع أو التهميش، حيث يتشكل ما يمكن أن نطلق عليه “التدجين الاجتماعي”، الذي يدفع الناس إلى قبول السلبية والركود بدلًا من النضال لتحقيق التغيير. هذه الحالة تجعل المجتمع هشاً أمام أي شكل من أشكال الفساد أو التلاعب، حيث أن غياب الثقة يجعل من الصعب على الناس الوقوف بوجه التجاوزات . اما الفقرة الرابعة فهي المسافة الفاصلة بين المؤمنين والقادة الحقيقيين وبين المتنكرين للجميل : هذه المسافة هي بالفعل الفارق بين من يدرك قيمة الناس ويؤمن بحقوقهم، وبين من ينسى تلك القيم بعد وصوله إلى السلطة. فالقادة المؤمنون بحقوق الآخرين يدركون أن نجاحهم يتطلب بناء علاقات قائمة على الصدق والشفافية، ولا يسقطون في هاوية الجحود والنكران. أما من يتنكرون للجميل، فهم يفقدون احترام الناس بسرعة، ويتركون وراءهم أثراً سلبياً في المجتمع لا يُمحى بسهولة . المؤمنون الذين يحملون الوفاء في قلوبهم يدركون أن قوة القيادة الحقيقية تكمن في الاحتفاظ بالروابط الصادقة مع الناس، وأنهم ليسوا مجرد أرقام أو أدوات لتحقيق مكاسب شخصية. بينما الكافرون بالقيم، ينتهجون مساراً فردياً يمهد لفقدان ثقة الناس بهم، ولعل التاريخ مليء بأمثلة عن قادة انتهت مسيراتهم بالخذلان بسبب نكران الجميل .
علينا أن ندرك أن الوفاء ليس مجرد قيمة أخلاقية بسيطة، بل هو جوهر القيادة الحقيقية. فالقادة الذين يؤمنون بفضل الناس ويقدرونهم هم من يستطيعون بناء مستقبل مشترك يعتمد على الاحترام والثقة. أما من ينكرون الجميل ويتنكرون لداعميهم، فهم لا يُعرضون أنفسهم للخسارة فحسب، بل يساهمون أيضاً في خلق فجوة عميقة بين القائد والمجتمع، مما يضعف البناء الاجتماعي ويهز قيمه الأساسية . وفي ضوء هذا، أدعو الجميع إلى التأمل بعمق في اختياراتنا للقادة، وألا نكتفي بسماع وعودهم وشعاراتهم، بل أن ننظر إلى أفعالهم وتعاملهم مع من ساندوهم قبل النجاح وبعده. فلا يُبنى المجتمع القوي إلا على يد قادة يؤمنون بأن الوفاء والاعتراف بالجميل هما أساس العلاقة بينهم وبين من يخدمونهم