كتب رياض الفرطوسي
الكرامة ليست مجرد كلمة تزين نصوص حقوق الإنسان؛ بل هي الأساس الجوهري الذي ينبع منه الحق في الحياة والأمان والحرية. في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، يُصرح بأن “جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق.” وقد وضعت الكرامة قبل الحقوق في هذا النص، ما يوضح أن الكرامة هي القاعدة التي يجب أن تستند إليها جميع الحقوق الأخرى. ولكن، وبعد أكثر من سبعين عاماً على صدور الإعلان، لا تزال الكرامة تُستباح في كثير من الدول، حيث تُمارَس أبشع الانتهاكات بحق شعوب كاملة لا تُحترم فيها لا كرامتها، ولا حقوقها، ولا حتى حقها في الحياة .
ازدواجية تطبيق الكرامة الإنسانية: إن المأساة الكبرى تكمن في الازدواجية الصارخة في تطبيق الكرامة الإنسانية؛ ففي الوقت الذي تحرص فيه بعض الدول على صون كرامة مواطنيها، نجد شعوباً أخرى تتعرض لأبشع أشكال الامتهان والإذلال والاستغلال. وهذا الامتهان ليس مجرد انتهاك عابر، بل هو أداة تدمير مستمر للإنسان، حيث يُحرم الفرد أو الشعب من كرامته من خلال سياسات قمعية وممارسات استغلالية تهدف إلى إدامة حالة الخضوع والعبودية. وعندما يتم تجريد الإنسان من كرامته يصبح عرضة لمزيد من الاستغلال والانتهاكات، ويفتح الباب أمام جرائم أخرى قد لا تنتهي ما لم يُعاقَب من يستهين بكرامة البشر. في مواجهة هذا الامتهان، يصبح الغضب حقاً مشروعاً وواجباً إنسانياً. فأن يحتج الإنسان، ويرفض، ويغضب على من يحاول سلب كرامته هو تجسيد حقيقي للكرامة. على سبيل المثال، نرى شعوباً كالشعبين الفلسطيني واللبناني، يقاومون ويخرجون عن صمتهم، ليس فقط من أجل حقوقهم، بل دفاعاً عن كرامتهم. عندما يدافع الفلسطيني عن أرضه وحياته وكرامته، يتم تصنيفه كـ”إرهابي”، وعندما تطلق المقاومة اللبنانية النار على قوات الاحتلال، يُعتبر ذلك “اعتداءً سافراً”. هذه الأوصاف تعكس ازدواجية المعايير التي تستخدمها القوى الدولية لاستباحة كرامة بعض الشعوب، وتبرير القمع والتجريد من الإنسانية . عندما يُفرض على الشعوب الامتهان والإذلال لفترة طويلة، تصبح الكرامة غائبة عن حياتهم. قد يفقد الإنسان القدرة على التمييز بين الحياة الحقيقية والمزيفة، وتصبح معاييره مشوهة بفعل برمجة ذهنية تستند إلى العبودية والقبول بالإذلال. إن ذلك يعمق حالة الانفصال عن الإنسانية، ويجعل استعادة الكرامة والنهوض بالوعي تحديًا كبيراً . في ظل الدكتاتوريات القمعية، كما شهد العراق في زمن الطاغية صدام ، كانت الكرامة تُداس بأبشع الطرق. فقد كانت الحياة الإنسانية بلا قيمة تُذكر، والإعدام قد يُطبق بسبب نكتة، أحتى مجرد فكرة. ومن أبشع الأمثلة، تلك القصة الشهيرة عن شخص حُكم بالإعدام لأنه حلم بانقلاب على السلطة. وقد طالت العقوبات حتى أصدقاءه الذين ظهروا معه في الحلم، بحجة أنهم شاركوه الحقد والكراهية. هكذا، يُصادر حق الإنسان في الحياة بقرار عشوائي، ويُستخدم الحكم في استباحة كل ما هو مقدس في حياة البشر، لخلق بيئة من الخوف الدائم والانصياع التام . إن عدم محاسبة من ينتهكون كرامات الشعوب ويستبيحون حقوقهم يفتح الباب لجرائم أخرى لا تتوقف، ويحول المجتمع إلى مسرح للفساد والقمع. فلا يكفي إعدام الجاني، بل ينبغي مواجهة العقليات والممارسات التي تفرز هذا النوع من الانحراف عن القيم الإنسانية. إن عدم وضع حدود صارمة لهذه الممارسات ينشئ جيلاً من المستغلين والمحتالين، الذين يرون في كرامات الناس مجرد أدوات لتحقيق مصالحهم . الكرامة ليست مجرد حق فردي، بل هي أساس وجود كل فرد. لذا، يجب أن يتمتع الإنسان بكرامته وعزته، وأن يكون له الحق في الدفاع عنها ضد أي تهديد. وعندما يشعر المرء بأن كرامته مهددة، فإن الغضب يصبح وسيلة للتمسك بالإنسانية في وجه الاستبداد. هذا الغضب هو تعبير عن رفض الامتهان وسعي لتحقيق الحياة الحقيقية، وليس مجرد رد فعل عابر. إنه تعبير عن أن الإنسان ليس آلة، بل كائن يمتلك روحاً وكرامة لا يمكن السماح بالاعتداء عليها دون مواجهة . إن الدفاع عن الكرامة ليس مجرد واجب فردي، بل هو مسؤولية جماعية للمجتمعات والأنظمة والقوانين. وبدون تحقيق العدالة ومحاسبة منتهكي الكرامة، فإننا نشهد تراكماً لبيئة قمعية تُرسّخ الإذلال وتكرس الاستغلال. على المجتمعات أن تعي أن الكرامة الإنسانية هي أساس الحقوق، وأن انتهاكها يفتح الباب لانهيار القيم الإنسانية في المجتمع. الكرامة هي أساس الحياة الحرة الكريمة، وعندما يُهدَر هذا الأساس، يصبح من الطبيعي أن يغضب الإنسان ويحتج، فهي سبيله الوحيد إلى العيش بكرامة وأمل