يعد الذكاء الاصطناعي موضوعًا ساخنًا للنقاش في الزمن الراهن خاصة فيما يتعلق بتأثيره على الإبداع و الصناعات الثقافية و الفنية بشكل خاص. و يرى المتحمسون أنّ الذكاء الاصطناعي – في شقه التوليدي أساسا – يُمثل ثورة إبداعية جديدة لأنه يسرع من وتيرة انتاج البيانات من أكواد و نصوص و فيديوهات و صور…، بينما يرى آخرون أنه يُشكل تهديدًا وجوديا و أخلاقيا للأعمال الفنية بحكم أنه يعيد تدوير المعلومات التي تدرب عليها لينتج في نهاية المطاف نماذج مشابهة وفق أنماط متكررة بل ربوتية.
قبل أن نؤيد أو نعارض الرأيين المتباينين أعلاه دعونا نبين بعجالة كيف يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُسهم في تعزيز الإبداع البشري.
أي نعم.. هذا ليس من ضرب الخيال و لكنه متاح و ممكن من خلال ما يلي :
١. توفير أدوات جديدة للتعاون والإبداع: الذكاء الاصطناعي يُساعد المبدعين على العمل معًا بشكل أكثر فعالية من خلال توفير أدوات للتعاون وتبادل الأفكار. على سبيل المثال، يُمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء لوحات بيضاء افتراضية تُتيح للمبدعين مشاركة أفكارهم ورسمها في الوقت الفعلي
٢. توليد أفكار جديدة: يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُساعد المبدعين على الخروج بأفكار جديدة من خلال تحليل كميات هائلة من البيانات والبحث عن أنماط غير واضحة للعين البشرية. على سبيل المثال، يُمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء موسيقى جديدة أو كتابة قصص مبتكرة أو تصميم منتجات لم تكن يوما ما مطروحة في الأسواق
٣. أتمتة المهام المتكررة: من الممكن أيضا للذكاء الاصطناعي أن يلهم المبدعين و يساعدهم على توفير الوقت والجهد من خلال أتمتة المهام المتكررة كتحرير النصوص و كتابة المقالات و اعداد مخططات المشاريع وترجمة اللغات وترتيب و تصفيف البيانات.
٤. تخصيص تجارب الإبداع: هذا غيض من فيض و قائمة إمكانات ” الساحر التكنولوجي” طويلة و عريضة لأن الذكاء الاصطناعي يُساعد أيضا في تخصيص تجارب الإبداع للمستخدمين الفرديين من خلال تحليل بياناتهم وتفضيلاتهم. و هنا يتبادر الى ذهني مثال حي حيث من الممكن جدا استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء قوائم موسيقى مخصصة أو اقتراح أفلام جديدة للمشاهدة أو تقديم أفكار لرحلات و هوايات لم تحلم يوما بإنجازها..
يُقدم الذكاء الاصطناعي اذا إمكانيات هائلة و غير مسبوقة لتعزيز الإبداع وتسهيل الولوج الى المعرفة و الوصول إلى المعلومات، لكنه يُثير في الوقت ذاته مخاوف حقيقية حول مستقبل حقوق الملكية الفكرية للمبدعين.
و هنا لنتخيل انك رسام محترف و انك رسمت لوحة فنية خالصة باستخدام الذكاء الاصطناعي، و لنتخيل ايضا انها لوحة زيتية تحاكي الموناليزا في نمطها و معاييرها التقنية و الجمالية بل و حتى الفلسفية، ففي هذه الحالة لمن تعود الملكية الفكرية للوحة المولدة بربوت انشاء الصور : لك ام للبرنامج ام لليوناردو دافنشي المبدع الاول و الاصلي للموناليزا الخالدة ؟؟؟
هل انتبهت معي الى عمق ما اضعه تحت المجهر ؟
ان سؤالي المطروح اعلاه لهو السؤال الاشكالي و المقلق و الصعب، و الذي الى حد الان لا نملك له اجابة شافية.
ان سؤالنا غير محايد البتة، فمع ازدياد انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي المُستخدمة في إنتاج المحتوى المكتوب و المصور و والمرئي، تزداد صعوبة حماية حقوق المبدعين من السرقة والاستغلال، كما يواجه المبدعون تحديات قانونية جديدة لحماية حقوقهم في ظل استخدام الذكاء الاصطناعي لتوليد محتوى مُشابه لأعمالهم. ففي أوروبا وأمريكا الشمالية، تُشير بعض القوانين إلى “حق التنقيب عن البيانات” الذي يسمح باستخدام المحتوى المحمي بحقوق الطبع والنشر، طالما كان متاحًا للجمهور. ولكن، يُثير هذا الاستثناء قلق المبدعين الذين قد لا يوافقون على استخدام أعمالهم لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.
من جهة اخرى، دعونا نقر انه يُمكن أن يُشكل استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى (الفني على سبيل المثال) تهديدًا للإبداع الأصلي بل و خلق حالة من النسيان و التجاهل للاعمال الفنية العريقة على حساب توجيه انتباه الجمهور الى اعمال مقلدة مكررة خرجت من رحم التنميط و اعادة التدوير، فغابت عنها عناصر اساسية لا يمكن للعمل الفني ان يكون فعليا حاملا لصفة الفن الا بها..
ان هذه العناصر / المعايير الفنية و التقنية كثيرة جدا، لكن ابرزها يمكن اختزاله في ذاتية المبدع..
فما المقصود بذلك ؟
دعني اشرح لك… اذا الفت على سبيل المثال رواية تشكل الجزء الثاني من ” حضرة المحترم” لنجيب محفوظ، فهل يمكن ان اجد فيها روح المؤلف و طقوس الكتابة و لحظات المعاناة و ربما البهجة المحيطة باخراج العمل برمته الى نور العالم؟ ان هذه العناصر كان من السهل جدا التعرف عليها من خلال حوار صحفي بين عملاق الادب العربي نجيب محفوظ و احد الصحفيين، و لكن بالنسبة لرواية ” حضرة المحترم” الاصلية، اي الجزء الاول، اي العمل الاصلي الذي كتبه عقل بشري خالص و لم يخرج من رحم الربوتات.. من المؤكد اذا انك فهمت من كلامي ان ذاتية المبدع، و ربما اصداء سيرته الذاتية الظاهرة او المبطنة في العمل، و ربما ايضا المناخ الاجتماعي و السياسي و الظرفية التاريخية و الايديولوجية.. كل هذه التفاصيل الدقيقة و العميقة التي استندت عليها رواية ” حضرة المحترم” الاصلية يستحيل ان نجد و لو عشرها في النسخة الربوتية ” الذكية”، سواء تعلق الامر بالجزء الثاني او الثالث او الرابع او حتى العمل الاصلي، اذا طلب في هذه الحالة من الذكاء الاصطناعي ان يعيد كتابة و صياغة ” حضرة المحترم” باسلوبه الشخصي!!!
توقف لحظة.. اياك ان تنطلي عليك الحيلة.. لا تسمح لعمالقة الربوتيك ان يضللوك و يوهموك ان الروبوتات، في الاداب و الفنون مثلا، تنتج لنا ابداعا اصليا خالصا.. خدعوك فقالوا :
. الذكاء الاصطناعي يحدث ثورة غير مسبوقة في عالم الفن،
. الذكاء الاصطناعي سيعوض في المستقبل القريب الملايين من المبدعين في مهامهم بفضل قدراته الخارقة في النسخ و التكرار و النمذجة و الاتمتة،
. الذكاء الاصطناعي قيمة حقيقية مضافة الى الابداع و الابتكار…
خدعوك و رددوا على مسامعك كل هذه الترهات و الاوهام، فانتبه اذا و كن يقظا.. خذ من الذكاء الاصطناعي اجود ما فيه، و هو يكاد لا يحصى، و لكن في الوقت ذاته كن حذرا من هلوسات و شطحات و اكاذيب ” التقني الدجال” !!!
لست ابالغ.. اطلاقا.. فمع سهولة نسخ الأساليب والصور، قد يُصبح من الصعب تمييز الأعمال المُولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي عن تلك المُبتكرة بفضل الابداع البشري و يُمكن أن يُؤدي ذلك إلى ظاهرة “التزييف” بل التزييف العميق ( و هذا المشكل قد برز الى الوجود في السنوات الاخيرة)، بحيث يتم نسخ أعمال فنية أو أدبية بشكل مُباشر دون الحصول على إذن صاحبها و مؤلفها الاصلي.
في الختام، نود ان نطرح على القراء عددا من التساؤلات البالغة الاهمية :
1. في نظركم من يملك حقوق الاستخدام التجاري للاعمال الادبية و الفنية المنتجة بربوتات الذكاء الاصطناعي التوليدي ؟
2. من يملك الحق في بيع هذا المحتوى أو الاستفادة منه تجاريًا؟
3. يُشير بعض الخبراء إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يُمكن اعتباره مبدعا أو مؤلفًا، وبالتالي لا يملك حقوق الاستخدام التجاري. ولكن، قد يُصبح من الصعب تحديد هوية المالك الحقيقي، خاصةً مع مشاركة العديد من الأشخاص في عملية إنشاء المحتوى، مثل مُطوري تقنيات الذكاء الاصطناعي ومُستخدميها.. و هنا يطرح السؤال : في المستقبل القريب هل ثمة من حلول قانونية واضحة لحماية حقوق المبدعين وضمان الاستخدام العادل و السوي لتقنيات الذكاء الاصطناعي ؟
* كاتب، استاذ باحث، خبير الرقمنة و الذكاء الاصطناعي
المعهد العالي للاعلام و الاتصال، الرباط