كتب رياض الفرطوسي
منذ أن انتقلنا من المعارضة إلى السلطة، تبدو مشكلة جوهرية واضحة: هي ان عقلية المعارضة لم تغادرنا. كما يقول السيد محمود المشهداني في أحدى تصريحاته، إننا جئنا إلى السلطة بعقلية “مقاولي التفليش”، تلك العقلية التي تركز على الهدم لا البناء، على التحريض لا الحوار، وعلى الكراهية لا المصالحة. في هذا السياق، لم نستطع بناء مؤسسات دولة قوية ومتينة لأننا افتقرنا إلى فهم آليات بناء الدولة، وظللنا عالقين في ذهنية المعارضة التي تغذيها ثقافة العداء والتصارع. منذ القرن الماضي وحتى يومنا هذا، تتبنى الجماهير في مجتمعاتنا مفهوماً مغلوطاً عن “النظام”. الكثيرون يعتقدون أن النظام هو مقر حكومي أو قصر رئاسي، وأن تغييره يعني فقط السيطرة على هذه الأماكن. هذه الرؤية السطحية تجاهلت أن النظام ليس في الجدران التي يمكن هدمها ، ولا في المؤسسات التي يمكن الاستيلاء عليها، بل هو متجذر في قيمنا، أفكارنا، وعلاقاتنا الاجتماعية. النظام السياسي ليس كياناً مادياً فقط، بل هو نتاج بيئة اجتماعية تحمل في طياتها الثقافة الأبوية، الطاعة العمياء، النمطية الفكرية، ورفض التنوع والاختلاف. التغيير الحقيقي للنظام يبدأ من تغيير هذه القيم، لا من الاطاحة بشخصيات او حكومات . التغيير الجذري لن يتحقق بانقلابات عسكرية أو استيلاء سريع على السلطة. التاريخ أثبت أن هذه التحركات لا تؤدي إلا إلى إعادة إنتاج أنظمة أكثر قمعاً، لأن البيئة الاجتماعية التي أنجبت النظام القديم ما زالت قائمة. على عكس التجربة التركية، التي اختارت مساراً أفقياً تدريجياً في التغيير منذ عشرينيات القرن الماضي، فضلت مجتمعاتنا التغيير الرأسي عبر العنف والانقلاب . لكن المفارقة، كما يوضح الواقع العراقي، أن مثل هذه التحركات لا تؤدي إلا إلى تماسك النظام أكثر في أوقات الأزمات. الخوف من السقوط يوحد أعداء الأمس ويجعلهم حلفاء اليوم، في حين أن القوى التي تسعى للتغيير تظل تعيد إنتاج ذاتها في دوائر مغلقة من الغضب دون أفق واضح . ما زلنا، للأسف، أسرى لعقلية المعارضة، حتى ونحن في مواقع السلطة. هذا يظهر في التشهير بالخصوم، الغطرسة الفارغة، والتمركز حول الذات. بدلًا من تجاوز الماضي والمضي قدماً نحو بناء دولة قائمة على العدالة والشفافية، نمارس ثقافة التشويه والإقصاء، ونعمق الأزمات بدلًا من حلها . البيوت التي أصبحت معتقلات للأفكار، المدارس التي تلقن الأطفال القسوة بدل التسامح، والمجتمع الذي يعاقب الاختلاف ويحرم السؤال، كلها تشكل البيئة الحاضنة لنظام سياسي يتفشى فيه الفساد والبيروقراطية والانحلال والعداء حتى وإن أسقطنا النظام القديم . بعد أن احتلت أمريكا العراق وسلمتنا السلطة، تعاملت معنا كما يُعامل الطفل الذي تُنتزع منه لعبته الثمينة وتُستبدل بقطعة من الشوكولاتة، فيفرح بالحلوى وينسى قيمة لعبته ( هذا ما أكده الدكتور المشهداني في لقاء تلفزيوني) . هكذا انشغلنا بالفساد، والاستحواذ على المناصب، والنهب، وأهملنا الوطن الذي هو أعز ما نملك. إذا قررت أمريكا والغرب تحقيق الاستقرار في العراق، فإنهم سيبحثون عن بديل آخر لإدارة المشهد، وربما لا يكون هذا اليوم بعيدا. وقد نبهت المرجعية الرشيدة إلى هذا الخطر في ندائها الأخير، حينما دعت الحكومة إلى تمكين الكفاءات ومنحها دورا محوريا في عملية التغيير والبناء. على مدى السنوات الماضية، لم تكن المطالب تتجه نحو تغيير النظام كمنظومة حكم، بل انحصرت في قضايا ظرفية تتعلق بحقوق سياسية أو اقتصادية، أو حتى خدمات بسيطة مثل الكهرباء والرواتب والمجاري. ومع ذلك، يبقى الفرق واضحا بين النظام السياسي والدولة. فالدولة هي مؤسسة خدماتية محايدة، بينما النظام السياسي هو كيان متغير يرتبط بإدارة السلطة وتوجهاتها.
تم بناء النظام السياسي الحالي ليكون بمثابة متاهة ودوامة، صُممت بعناية للتحكم السري من خلف الكواليس، حيث تُترك للساسة أدوار ظاهرية أمام الجمهور لتمثيل الهيبة والسلطة. لكن بعد سنوات من الفساد والنهب، لم يعد الصراع بين الحاكمين والشعب مجرد خلاف سياسي. أصبح الأمر صراعاً وجودياً بين حياة مرفهة للنخب الحاكمة، وحياة بائسة للأغلبية. وفي هذا المشهد، لا تعني خسارة السياسي والمنتفع من امتيازات السلطة عودته إلى منزله ببساطة، بل غالبا ما تعني ذهابه للسجون أو حتى الى المشانق .
كيف نخرج من هذه الدوامة؟
لا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي دون إصلاح اجتماعي وثقافي. تغيير النظام السياسي يبدأ بتغيير قيمنا الاجتماعية، بتبني ثقافة الحب بدل الكراهية، الحوار بدل التحريض، والتسامح بدل الانتقام . كما خرج الألمان من النازية بعقدة الشعور بالذنب واتجهوا نحو البناء، يجب أن نخرج نحن من ماضينا بعقدة مسؤولة توجهنا نحو الإبداع والبناء. وإلا، سنظل عالقين في دائرة الهدم والتفليش ، نكرر أخطاءنا إلى ما لا نهاية.
النظام ليس مؤسسة أو بناية يمكن إسقاطها بالتحريض أو العنف، بل هو شبكة معقدة من الأفكار والقيم الراسخة في صميم المجتمع. إذا لم نتغير من الداخل، سيبقى النظام قابعاً في أعماقنا، يعيد إنتاج نفسه كلما أطحنا به. التغيير الحقيقي يبدأ من الذات، ومن بناء وعي جماعي جديد يركز على العدالة، الثقافة، والإنسانية
أهم الأخبار
- حماة المال يطالبون بالتحقيق مع الوزير السابق ميراوي بسبب شبهات تبديد المال العام
- إعتقال فتاة تحمل جثة رضيعة موضوعة داخل حقيبة يدوية شمال اكادير
- مجلس الوزراء الإسباني يقلص إجراءات الحصول على التأشيرة
- سيدة تقتل شقيقها الاصغر ضواحي العرائش بسبب نزاع حول قطعة أرض
- إبتدائية الجديدة تقضي بالحبس النافذ في حق “الستريمر” إلياس المالكي
- عامل سيدي إفني يشرف على تدشين وانطلاقة مجموعة مشاريع تنموية بجماعتي اثنين املو وسيدي عبد الله أوبلعيد احتفالا بعيد الاستقلال المجيد.
- الوساطة البرلمانية تعيد المحامين إلى ردهات المحاكم
- المهاجرون المغاربة يإيطاليا يعانون من عدم تفعيل الاعتراف برخص السياقة
الخميس, نوفمبر 21